Share |

الشاعر إبراهيم بركات : منذ صغري كنت شغوفاً بالكلمة ومتحيزاً لها... حاوره : هوزان أمين

الشاعر إبراهيم بركات

 

إشكالية النص عند إبراهيم بركات تبدأ من تناوله موضوع الذاكرة وإسقاطاتها وتفاعلاتها في راهنية الغربة، وفي الذات من خلال تواصله مع الآخرين من منظور إنساني بحت، يتعامل مع عناصر ببراعة ومصداقية مطلقاً العناق لخياله الخصب، و (ميرنا ) هي ذاكرته ومدماك قصيدته .

يتجاوز معها البعد الاجتماعي للعلاقة ، مستنداً إلى المخزون الفكري والأخلاقي ، عبر أنقى تآخي إنساني وروحاني صادق، لا يقدم على الرهانات الخاسرة ، ويدرك متى يجازف ، ولا يقف أمام الخيارات كثيراً بل يعرف لحظة الحسم ...؟

 

-          الشعّر وأنت . أيكما بدأ بالأخر . وكيف كان ذلك ... ؟

 

-  لم يكن هناك أي موعد مسبق بيننا . ولا شيء يأتي من الخواء والعدم فمنذ أن كنت صغيراً كنت شغوفاً بالكلمة ومتحيزاً لها فمن خلال المعاناة والحرمان والصراع اليومي مع الحياة  وإدراكي المبكر للواقع ولطبيعة الصراع كان الشعر ملاذاً لدي التقينا بحميمية دافئة وما زلنا في ذات الزخم من الألفة والمعاشرة والحميمية؟

 

-  بداياتك الشعرية كيف كانت . وما الذي دفعك إلى لجة الشعر على هذا النحو ...؟

 

- كان للمد الثوري الذي بدأ بالخمسينات من القرن الماضي وما تحرزه الحركات التحرر الوطنية من انتصار تجلياتها الواضحة في الواقع الذي أعيشه وكذلك ما أراه وألمسه من الصراع الطبقي بصوره المختلفة في هذا الواقع وكان لكل ذلك أثره وانعكاسات في داخلي كإنسان يعايش هذا الواقع بكل مفارقاته وتناقضاته  عبر هذا المشهد وتفاعلاته ولد هاجس الشعر والكتابة في داخلي وكانت محاولاتي الأولى على شكل خواطر مع قراءة مكثفة ومتقنة لشعراء وكتاب كبار  في سبيل صقل موهبتي وزيادة قدرتي لبلورة مشروعي كشاعر.

وكانت لهذه المشروعية إرهاصاتها – وتراكماتها منذ طفولتي القاسية بالإضافة إلى حالات القلق والإحباطات التي كنت أعيشها . حتى بت أشعر أن في داخلي كم لا متناهي من مكنونات وما يختلج به إنسانيتي فكان الشعر ملاذ وتلك الواحة التي نحلق في فضاءاتها ولأمتنع عن موتي اليومي . بالشعر أجد ذاتي وأتحد مع المطلق ؟

 

- منطقة الجزيرة ( شمال شرق سورية) التي فتحت فيها عينيك على الشعر والحياة – حبذا لو حدثتنا عن خصوصيتها حتى تلد كل هذا العدد من محبي الشعر والكلمة ...؟

 

- كما للجزيرة خصوصيتها الكوردية ، بكل ما تحمله هذه الخصوصية من معان وعلى كافة الصعد كذلك للشاعر الجزراوي أدواته الخاصة المستمدة من واقعه ومعاناته ، من آلامه الذاتية والحياتية التي يعيشها هذا الشاعر على مدار الساعة وبشكل يومي حيث نجد الغزارة في الكتابة والإنتاج الشعري هناك أمر مهم وهو قد تجد في الجزيرة شاعراً أو فناناً يعمل فلاحاً أو حداداً أو عاملاً  فالشّعر والإبداع هنا ليس حكراً على من يحملون الشهادات ، وما يميز الشاعر الجزراوي وفاءه لجذوره وللواقع الذي خرج منه ومهما أبتعد عنه وتباعدت المسافات تبقى ذاكرة الشاعر طافحة بالجزيرة بسنابلها وحقولها وبيوتها الطينية وأهلها الطيبون وقد أفرزت الجزيرة عدداً كبيراً من  الشعراء المهمين نذكر منهم ،( جكَر خوين . سليم بركات . دحام عبد الفتاح .وإبراهيم اليوسف ).

وتبقى الجزيرة لشاعرها وتره الحساس .

كما كان للوعي الكورد القومي انعكاساته وتأثيراته على المجتمع الجزراوي عامة وعلى شعرائه وكتّابه على وجه الخصوص بما في ذلك ما يحدث في محيطه الكورد عامة؟

 

-  وسط هذه اللغط الكبير حول جدوى قصيدة النثر التي تعتبر واحداً من كتابها حبذا لو حدثتنا عن رؤيتك لمستقبل هذه القصيدة...؟

- لا أكترث كثيراً بما يقال حول جدوى القصيدة النثرية لسبب بسيط وهو كي أتحاشى التصادم مع الذات فأنا في تصالح وصفاء مع ذاتي وما أكتبه ترجمة لجملة الشاعر والأحاسيس التي تكتنفها ذاتي وتجانسها مع المنظومة الفكرية والروحية في داخلي كإنسان . وبالشعر تتوازن هذه الأمور عندي من خلال ممارستي لهذا النوع من الكتابة أرى إن قصيدة النثر قد رسخت نفسها رغم الإشكاليات والالتباسات التي حامت حولها وجدواها  وهي باقية ما دام هناك حس بشري ومعاناة إنسانية . كونها لم تلغ الأنواع الأخرى من الكتابة الشعرية كما أنها تمنح الكاتب مساحة أكبر للتعبير عن مكونات ذاته . ومن يقرأ( جدارية) محمود درويش أو ديوان ( كتابات ) لأدونيس سيّدرك مغزى ومدلولات  القصيدة النثرية وبالتالي يمكنه استنتاج رؤية مستقبلية لهذه القصيدة ؟

 

- من يقرأ قصائدك سيلحظ حضورا مركزا للأنثى ، اية أنثى هذه التي تهطل غيومها على أمداء قصائدك هكذا ...؟

 

- من المفارقات المدهشة في مسيرتي الشعرية هي ان الأنوثة تعششت بين أصابعي منذ البدء بروحانية وطهارة بعيدة عن ابتذال والكلمات الرخيصة ،حين فقدت أمي شعرت بخواء عاطفي وأنثوي مميت ، إلى أن تلقفتني  (ميرنا ) وألبستني مريول أمومتها بصدق وبراءة قل مثيلهما ، ومن خلال ميرنا وذاكرتها المشوشة اندفعت نحو الحياة ونحو الحلم ، حتى تتواءمت روحانا أتخمتها بأبوتي ، وطفحت قصيدتي بحضورها بها حصنتٌ ذاتي وحافظت على نقاء رجولتي بقدر حرصي على نقاء أنوثتها . ومن خلالها - كما تلاحظ من قصائدي – اركز على موضوعة الذاكرة وتجلياتها اللاحقة وبالتالي إعادة صياغة الذاكرة بآلامها وأحلامها ومعاناتها وكل ما تختزنه من الحس الإنساني الخلاق بعيداً عن  التصنع والسفسطة، كي لا أسترسل في الكلام كثيراً أقول لو لا وجود ميرنا لأنطفأت قصيدتي منذ سنوات ؟

 

-          هل هذا يعني أن (ميرنا ) الذاكرة الجديدة عند إبراهيم بركات ، ومن خلال تناوله الذاكرة ، ولأنثى العاشقة وتفاعلها مع البعض ؟

 

بالضبط ... فـ(ميرنا ) لا تعني لي كونها امرأة بعينها ، بل أنها الذاكرة والذات والأخر ، امارس هذا الثالوث عبر الكتابة بكل زهدٍ وتنسك . هذا إذا تجاوزنا حالة العلاقة الاجتماعية بيننا ، وتعرف أنها بالنسبة لي تعتبر من المحرمات من خلال العوامل الإنساني وهذا لا يمانع أن أبني علاقة روحانية نقية وصادقة مع من أكون عاشقاً ،أنا عشقت ميرنا كونها بالنسبة لي ذات أمي أخرى . إنها النفخة النورانية في حياتي أحاول أن أجددها في كل يوم بل في كل ساعة .

اكتشفت من خلال ميرنا وذاكرتها المشوشة دلالات مكانية وزمانية ذات أبعاد واضحة المعالم لنعكسها سوياً على واقع الحال .أرفض بشدة أن تكون (ميرنا) رهان عمري الخاسر ؟

-          يعتبر بعضهم ، إن الشعر الكورد المكتوب بالعربية لا علاقة له بالأدب الكورد ما  هو رأيك ...؟

 

- البعض يتباهى بكوردية يلماز  كوناي رغم ان أفلامه ناطقة باللغة التركية وقد يتباهى بعارضة أزياء أصولها كوردية ، تعرض مفاتنها في عواصم أوربية لكنه لا يتردد في نعت من يكتب بالعربية  بمختلف النعوت والاتهامات.

لست على استعداد للرد على هؤلاء ولا أكثرت لما يقولون ، بالنسبة لي نشأت في بيئة كوردية بحتة لكني تعلمت ودرست باللغة العربية وتعلقت بالكتابة ومارستها  من خلال هذه اللغة . وغيري كثيرون بل هناك كبار الشعراء والكتاب من الكورد أبدعوا باللغة العربية ! (بلند الحيدري ، سليم بركات ).

أن الشعر الكوردي المكتوب باللغة العربية أصبح حالة لا يمكن تجاهلها في مشهد الشعر الكوردي بل إنهم استطاعوا الوصول للآخر ومخاطبته أكثر من الذي يكتبون باللغة الكوردية . نحن شعب من الضروري أن نصل للآخر بأية لغة كانت لماذا نخاف على لغتنا . لماذا نخاف من الذوبان . الرأفة بنا ؟

 

- كيف تنظر إلى واقع الشعر في سوريا...؟

 

- هناك عدة عوامل ومؤثرات تتحكم بواقع الشعر في سوريا كما في غيرها من الدول . أول هذه العوامل انحسار مساحة القراء لجميع الأجناس الأدبية . لاحظ رغم ازدياد المعاناة وما يتعرض له الإنسان من القهر وحالة الاغتراب بينه وبين الواقع بل بينه وبين ذاته ، بترافق مع هذا التلوث الإعلامي وما يتعرض له من المعاناة والاحباطات في حياته اليومية . والشعر الحقيقي يا صاحبي يولد من رحم هذه الاحباطات و المعاناة وليس في حالة الترف  لذا نجد هذا الكم هائل ممن يتسلقون جدار الشعر . لكن دائماً هناك غربلة وفرز ضمن المشهد الشعري لذا أقول أن واقع الشعر في سورية تواجه العديد من الاحتمالات والخيارات وفي كل الحالات سيبقى الشعر وسيبقى من يكتب الشعر بنهم وصدق؟

هذا الواقع كان سائداً قبل بدء الأحداث وتمخض الشارع الشعبي بولادة حالة ثورية سلمية على مساحة سوريا كأمتداد طبيعي لما حدث في أكثر من بلد عربي، هنا أندمج الحراك الثقافي بالحراك الثوري كحالة طبيعية في سيرورة العمل الثوري السلمي وثقله في الشارع السوري .

غير أن الأنعطاف الخطير والتحول الملفت الذي اصاب جسد الثورة وأنهك الشارع
هو استخدام السلاح للقضاء على صوت الشعب الذي فاق التصوّر.
وتجنيد شريحة من المرتزقة لافراغ الثورة من ثوريتها ليغدو الصراع دموياً ويعلو صوت الرصاص على كل ماعداها من الاصوات . نحج هذا المنحى وفي أكثر من أتجاه .

 

* دعني هنا أتوقف معك عند هذه النقطة لأسألك عن قراءتك لما يجري في سوريا . وماذا عن الكورد في كل ماجرى ويجري.....؟؟؟

 

- دعني أشير أولاً بأني كنت معتقلاً في معتقل الفيحاء بدمشق حين بدأت شرارة الأحداث
وحين أطلق سراحي كان قد مرّ أكثر من خمسة أشهر على أندلاعها .

وكي لا اغوص في التفاصيل ومتاهات ما يحدث خاصة في غياب، أو ربما أنعدام افق الحل في المدى المنظور أقول : الذي يحدث بتأكيد ليس خيار الشعب السوري والقضاء على الحراك بهذه الطريقة الدموية لم تكن افضل الحلول ولا افضل الممكن
ومن تسلق جسد الثورة بالسلاح مما تسبب بالقتل وأعطى لنظام الذريعة للقضاء على الثورة وتدمير المدن، هذا المتسلق كان الشعب نفسه كفيل بإزاحته لو سارت الامور في مجراها الطبيعي . وطالما الحل العسكري مازال قائماً لا ارى أي مؤشرات أو بوادر الحل تلوح في الأفق .
كردياً ما زال الضبابية سائدة في الموقف الكورد وأعني غياب أي مشروع كوردي متكامل يكفل حقوق الكورد في المرحلة اللاحقة ، ولا جدوى من وثيقة من هنا أو بيان من هناك .

 

-  وماذا عن المعارضة .....؟

 

- لا رهان على معارضة الخارج وسط هذا اللغط والألتباس في خياراتها وتناقضاتها ، معارضة الداخل لم تخلق بعد الارضية المناسبة لامتلاك الخيارات والبدء ، نحو مرحلة التغيير دون أن ننسى ما تتعرض له من ضغط أعتقالاً وقتلاً، ما أخشاه حقاً هو سيطرة قوى دينية وسلفية على مفاصل المعارضة وتهميش ، القوى العلمانية ومنظمات المجتمع المدني .

 

 - وأخيرة ماذا تقول .....؟؟؟

 

- من بين طوفان الدم وهدير الطائرات لابدّ من ولادة حالة جديدة لكن ملامحها لم  ترتسم بعد أو ربما لم تتوضح بعد ....

وإلى وقتذاك :

يبقى الشعر هاجسي ، ويقاسمني الخسارات والاحلام على وسادة هذا الوطن النازف والمستباح .... وأنثاي ، تحرضني على على الكتابة .

وتبقى مدماك قصيدتي . وتعويذتي التي أختص بها ذاتي كي لا أتشظى وسط هذا اليباس وأخيراً : طهّروا ذواتكم بالشعّر .

 

جريدة التآخي -العدد والتاريخ: 6429 ، 2012-10-21