Share |

المثقف الكردي وإرهاصات البحث عن الهوية (*)…روني علي

1-                  مدخل : يقول ديفيد بروكس " لم يعد الأمر متعلقاً بما تقرأ أو تعرف، ولا بمدى قدرتك على فهم ما تقرؤه، وتستهلكه من مواد ثقافية، بل يتعلق الأمر بأن تجد لنفسك مكاناً في فضاءات الصخب الثقافي، ولا تقلق إن لم يكن لديك شيء لتقوله، فلا أحد سيصغى إليك على أية حال .

وأصبح من السهل، أكثر من أي وقت مضى أن تبدو مثقفاً، فلم يعد ضرورياً الآن حمل كل تلك الكتب الثقيلة، فقد تغيرت قواعد اللعبة، يمكنك اليوم أن تكون عضواً ناشطاً في النخبة الثقافية من دون أن تضطر لقراءة شكسبير أو دوستويفسكى أو نيتشه، وبوسعك أن تناقش وتجادل في كل شيء يستطيع كومبيوترك أو هاتفك الخلوي أن يلتقطه من الأنترنت، يمكنك مثلا أن تكتب مقالات في شؤون العصر وأن يكون لك رأى في كل القضايا، وكل ما عليك هو أن تتبع الموضة الثقافية".

 

2- المثقف كمفهوم

 

   يكثر الحديث عن المثقف كمفهوم إشكالي، كونه الشريحة التي تستمد مكانتها من قوة الافكار.فقد تناوله المفكرون والمنظرون في الكثير من الأبحاث والمقالات ومن وجهات نظر مختلفة، وبحسب مدارسهم الفكرية والإيديولوجية، فكان المثقف الكوني، والعضوي، والتقليدي، والنفعي، والسلطوي، والانتهازي، والشمولي، والفارغ، والفعال، والثوري.. إلى آخر هذه التصنيفات، وقد قدم، وكل بحسب رؤيته تعريفاً له، فبحسب إدوار سعيد؛ هو فرد مُنح قدرة على تمثيل رسالة أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة أو رأي، وتجسيدها والنطق بها أمام جمهور معين ومن أجله.. والمثقف التقدمي بحسب غرامشي، يكون ذا ثقافة شاملة تلمّ بقضايا شعبه وقضايا البشرية الكبرى، وأن يجمع النضال الفكري بالنضال العملي الميداني .. وبرأيه فإن المثقف الفعال تتوهج أفكاره تحت رماد التخلف ويشعر بمسؤوليته في تغيير الواقع، يدرس التاريخ وتعقيداته بعيون فاحصة، ويقول كلمته ببسالة، ويشارك في أثراء الواقع بلا حدود، دون أن يستسلم لماض لم يعد في أكثر جوانبه يجدى المجتمع في مسيرته، ولا يستسلم إلى الآخر.

  وإذا ما أخذنا برؤية غرامشي؛ أن كل الأفراد مثقفون .. ولكن ليس لكل الأفراد وظيفة المثقف في المجتمع، فهم بذلك ليسوا جماعة صغيرة جداً من الملوك – الفلاسفة الموهوبين المتفوقين والذين يتمتعون بالأخلاق العالية، ويمثلون بالتالي ضمير البشرية كما ذهب إليه الفرنسي جوليان بندا ..

وبما أن دوره ليس في تفسير العالم وإنما تغييره. وهم متورطون بصورة فاعلة في المجتمع ويقف على الدوام بين الإحساس بالعزلة والاصطفاف مع الناس، فهو "أمام عدد لا نهائي من المفاهيم الثقافية، والفكرية، والدينية، وحتى السياسية، والاجتماعية، والمثقف بوصفه المتماس مع هذه المفاهيم؛ فإنه لا بد من أن يعود لإبداع مفاهيمه من خلال إخضاعها لمفهوم الاختلاف. مع أن الكمال بحسب الناقد الانكليزي ت . س اليوت " في أي واحدة من مناشط الثقافة لا يمكن أن يسبغ الثقافة على أحد, لأن السلوك المهذب بدون تعليم أو فكر أو حساسية للفنون يُجنح بالمرء الى آلية مجردة, وأن العلم من دون سلوك مهذب إنما هو حذلقة, وأن القدرة الفكرية المجردة من الصفات الأكثر انسانية لا تستحق الإعجاب إلا كما يستحقه ذكاء طفل معجزة في لعب الشطرنج, وأن الفنون بدون إطار فكري زيف وخواء.

 

3- المثقف الكردي والمنهل الثقافي

 

  إذا كانت الفلسفة حسب تولوز "هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم" فباعتقادي أن المثقف يأتي دوره في تطويع تلك المفاهيم من أجل النبش في الآفاق والبحث عن الحلول كونه صاحب رسالة، لأننا حينما نتحدث عن المثقف يتبادر إلى أذهاننا ذاك الشخص الذي يمتلك مؤهلات معرفية والقدرة لأن يقرأ الواقع ويستنطق الوقائع .. ينحت في المستقبل ويبدع في استكشاف الآفاق . بغية التمهيد لتوضيح معالم الحقيقة، فهو ليس ذاك الشخص المهتم الذي يبحث في الكتب ويحفظ ما فيها، بل الذي يتمكن من تسخير الإمكانيات ليغير في الصورة وإرهاصات البحث عن الهوية .. وعليه وقبل الدخول في موضوعة المثقف الكردي، وإشكاليات الفعل الثقافي، لا بد لنا من طرح التساؤل التالي؛ ترى أية ثقافة تلك التي ساهمت في بلورة الشخصية الثقافية الكردية، وما هي المرتكزات المعرفية التي تشكل بالنسبة لها، المنهل الذي يستمد منه ملاكاتها ومخزونها الثقافي، وبالتالي؛ هل هناك ما يمكن أن نسيمها بالثقافة الكردية بالمعنى الدقيق للكلمة، وعلى ضوئها نحدد ملامح رسالة المثقف الكردي..؟

  وهل استطاع أن يجاري حركة التطور، ويخضع منتوجه الفكري والمعرفي لخدمة مجتمعه، وسط إرهاصات الحالة العامة، وتصارع القوى، وتشتت الذهنية المعرفية، بين أكثر من تيار وإيديولوجيا..؟. إذا ما أخذنا بعين الاعتبار توزعه بين العديد من المفاهيم والإيديولوجيات، وذلك بحسب درجة المد والجزر، من القومية إلى الماركسية إلى الديمقراطية إلى أنصار المجتمع المدني ومن ثم الليبرالية، دون أن ينسى في كل ذلك من تقديم نفسه كنصير للتحرر، وداعية لحرية الرأي والإبداع والممارسة، مثله في ذلك مثل السياسي الكردي، الذي عاشر الكثير من التحولات والانعطافات، ولم يزل قابعا في مركزه، وهو ينشد التغيير وتداول السلطة .

   فإذا ما تجاوزنا عقدة النقص والنزعة القوموية وظاهرة التباهي، يمكننا القول؛ أن المكتبة الثقافية الكردية فقيرة جدا بتراثها القومي، إذا ما قارناها بمثيلاتها من مكتبات الشعوب، ويبدو أن مرد ذلك يكمن في أن الكرد كانوا وما زالوا ضحية التاريخ والسياسة، والمخاضات التي تعرضت لها المنطقة، منذ دخول الإسلام، واصطباغ الحالة الفكرية والثقافية بالطابع العروبي، كنتيجة للتلازم القسري بين لغة القرآن وحركة بناء الدولة، الإسلامية الشكل والعروبية الطابع والمضمون، إلى تبلور ظاهرة المدارس الفكرية والفلسفية في واقعنا، وتصارع القوى والتيارات الدولية، حول شكل وآلية عملية التطور في الحالة المجتمعية، سواء السياسية منها أو الفكرية والاقتصادية، وما أفرزتها فيما بعد؛ عن ما سمي بالصراع الطبقي داخل المجتمعات، وكذلك بسياسة الأقطاب، أو الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، والتي كانت تهدف إلى نوع من توازنات سياسية، وتكوين مراكز قوة دولية، الهدف منها توسيع دائرة الانتشار،وكل بحسب خياراته، بغية تهيئة المناخات التي تساهم في مد النفوذ والسيطرة، وخلق مرتكزات المصالح الاقتصادية والاستراتيجية. والتي شكلت بمجملها المقصلة الحقيقية للنتاج الفكري المنفتح على الآخر، أو للشخصية القويمة والمستقلة من أبناء المنطقة. كونها انتجت ثقافة المنهج والسلطة والإيديولوجيا، والتي بموجبها قدمت شعوبنا فاتورة أكثر إيلاماً وأكثر حجماً وضريبةً، بحكم أن الصراعات التي تولدت جراء التناحر والتصارع بين تلك الإيديولوجيات وأقطاب الصراع، قد أخذت مساحتها بين أبناء الفئة الواحدة، وحتى الطبقة الواحدة، فباتت مجتمعاتنا تتناحر حول مفاهيم ومقاسات، لا تمتلك ركائزها على أرض الواقع، وإن كنا نعي ونؤمن بحقيقة الصراع داخل المنظومات الفكرية، وكذلك داخل الطبقات في المجتمع، وأن الحياة مستمرة على أساس الاختلاف وصراع الأضداد ..

   إن عملية التناحر والتجاذب بين القيم المعرفية، التي لم تمتلك رصيدها المجتمعي بشكله المتدرج، والخاضع لآليات التطور الفكري في واقعنا، والتي جاءت إما عبر حد السيف، أو بالاستناد إلى قوة الحديد وسلطة القمع والاستبداد، قد أفرزت بحكم الممارسة نموذج ثقافي مشوه، يختزل في داخله المنتوج الفكري، الذي يمهد لإنتاج بذور الفرقة واحتكار الأنا لكل الآخر، ويتداخل عبرها الديمقراطية مع الاستبداد، وحرية الرأي مع قمع المختلف، وأسست لمنظومات يمكن القول عنها، أنها تفتقد إلى سماتها ومضامينها، وهي التي أنتجت ما يمكن أن نطلق عليه تسمية المشتغل في الحقل الثقافي، أو المثقف القلق، وهو يصارع الاستمرار بين فكي كماشة، السلطة كأداة قسر وقمع من جهة، والإيديولوجيا كحالة احتوائية، وقيد على تطور الفكر من جهة أخرى، كون هذه الإيديولوجيات، وإن كانت تختلف حول بعض القضايا والمسائل الفلسفية، وشكل الصراع المجتمعي، إلا أنها كانت تصب عبر ممارستها -كعقيدة -في خانة الفكر الشمولي، وتحاول أن تقولب العقل البشري ضمن سياقات معينة، سواء بالترغيب أو الترهيب، لأن الذهنية التي ترسخت في أساسيات الحياة العامة، من جراء طغيان ثقافة الأنا أو العنصر، واستناد الأنظمة السياسية عليها كحامل لاستمراريتها، شكلت حاضنة ثقافية، قد تتغير في الشكل بفعل المتغيرات، لكنها تستمر في التعامل كنمط ونموذج ضمن آليات الحراك المجتمعي، ناهيكم عن أن هذه الإيديولوجيات كانت تشد من أزر المركز على حساب الفئات والشرائح المجتمعية، وذلك بحكم تداخل المصالح بين من في مركز القرار، والقوى التي كانت تقف وراء نشر مثل هكذا ثقافة ..

   إذاً؛ في ظرف تاريخي / سياسي كهذا، وفي أحضان توازنات كهذه، وترافقاً مع الحالة الاجتماعية التي تعرض لها الكرد، من جهل وتخلف، بحكم أنهم كانوا يشكلون - ودائماً - القومية المضطهدة في مناطق تجزئتهم، فضلاً عن سيطرة النموذج القبلي، وتحكم الزعامات العشائرية بالسلطة الزمنية في المجتمع الكردي، ناهيكم عن تمركز أدوات العلم والمعرفة في قلة قليلة من أبناء الفئات والطبقات الميسورة، والتي لم تمتلك أدوات التواصل مع الشرائح الاجتماعية، لم تتشكل مرتكزات ثقافة قومية بمعناها الدقيق، حتى أن التراث القومي الكردي، لم يخرج بكليته من دائرة الصدور إلى حقل السطور، وبقيت الحياة الاجتماعية الكردية، ونمط العلاقات فيها، خاضعاً لمشيئة السلطة والسلطان من لدن القوميات السائدة، وإن كنا ندرك ما قدمته القامات والطاقات الكردية من خدمات ونتاجات إلى المكتبات الثقافية لدى القوميات السائدة، إلا أن ذلك لم يشكل بالنسبة إلى الشعب الكردي انعطافة في حقل التأسيس لثقافة كردية، كون اللغة التي كتبت بها تلك النتاجات، كانت غريبة بالنسبة إليه . وبما أن اللغة هي فكر وأداة للتواصل، فإن الانقطاع كانت هي السمة الطاغية بين الشعب ونخبه المتنورة على مر عقود من الزمن . مع أن المثقف وعلى حد تعبير لينين، وسيطاً بين المعرفة والجماهير.

   فالاختلاف في البنية أو الذهنية التي أسست لمنابعه ومصادره، وواقع الحال التي تعيشها مجتمعاتنا، وكذلك الهزات التي كانت تصيب تلك المنظومات المعرفية بنتيجة فعل التطور، وما كان يصيبه من جفاء في أدواته، جعل المثقف الكردي يعيش حالة ثقافية لا تمتلك عناصر الربط والارتباط مع الحياة العامة التي تعيشها مجتمعه .. وإن كنا نعي أن الثقافة الحقيقية، أي ثقافة الإنسان، لا تتحدد هويتها من خلال العنصر والجغرافيا، كونها منتوج تراكمي وعصارة الفكر البشري، الذي ساهم ويساهم بالتفاعل والتواصل في بناء حضارة الإنسانية.. ولكن وفي الوقت نفسه، لا يمكن صهرها بتفاصيلها في كل الرقع الجغرافية نظراً لحالات الاختلاف والتباين بين المجموعات البشرية ..

  ويمكن القول أن الانعطافة الحقيقية في ذهنية المثقف الكردي لكي يخرج برأسه، قد حدثت إبان الهبة الآذارية 2004 لكن وبما أنه يعاني – كما السياسي الكردي - حالة هي أكثر من ازدواجيه في تقديم نفسه وطرح رسالته، ولم يحدد خياراته بعد حول مسائل إشكالية، تقع بين مفاهيم القومية والوطنية والإنسانية، فإن رسالته تبدو وكأنها مشتتة ومشوه وغير مضبوطة الأهداف ..

 

 

4- المثقف الكردي والحواضن السياسية

 

    إذا كان لنا أن نخوض في الآليات التي تعتمدها الفئات المتنورة أو المشتغلة في الحقل الثقافي، من حيث الدور والمهام والرسالة، كان علينا أن نستحضر الآليات التي تعتمدها الأطر الحزبية في ممارستها لدورها، وقيامها بمهامها ومسؤولياتها، وذلك حتى تكتمل الصورة، لأن كلتا الحالتين - في الوضع الكردي- ترتكزان إلى ذهنية واحدة، تلك التي تقصي وتعمل وفق مفهوم الانقلاب في حقل الممارسة، وهي تستمد قوتها من الحالة المجتمعية ونمط العلاقات فيها، وتستند عليها، حيث أن السياسي الذي يتبوأ مركز القرار في الحزب، لديه شعوره الخاص به؛ من أنه يمثل القضية الكردية في شموليتها، ومن جوانبها المتعددة، وإلا لمَ كان كل هذا الانكسار في الجسم الحزبي إذا ما تم توظيف الطاقات في مواقعها، ووضعت الآليات بعيداً عن هيمنة الشخص، وبالاستناد إلى مفهوم الحزب الذي يعمل وفق العقلية المؤسساتية، وهذا ما لا يتوافق مع النموذج المسيطر على القرار الحزبي ..

   وبما أن الفعل الكردي، سواء السياسي أو الثقافي وحتى الاجتماعي، مقيد بأكثر من قيود المنع والحظر، ولا مجال للعمل إلا من خلال ما هو متاح عن طريق الحزب السياسي، بغض النظر عن دوره وحجمه وتركيبته، وذلك لعدم وجود الأطر الثقافية أو المؤسسات التي تحمي المشتغلين في حقول الإبداع، ولا يمكن للمثقف، حتى هذه اللحظة، أن يعتمد على طاقاته الذاتية في الوصول والانتشار إلا عبر جسور الحزب، بل هناك من في الحزب يحاول جاهداً أن يعمل على صناعة المثقف، الذي لا بد وأن يكون مقدماً له صكوك الولاء والطاعة، وذلك إما عبر تقديمه من خلال أدواته الذاتية، كالأدبيات والمجلات، أو من خلال علاقاته الكردستانية، كالفضائيات والمؤتمرات الثقافية، بغية احتوائه واحتواء رؤيته وقراره، وبغض النظر عن طاقاته وملاكاته، فإن النتيجة الحتمية لهذا الواقع، هي حالة النكوص في مهمة المثقف المستقل؛ الذي يحاول أن يجتهد بعيداً عن سلطة المنظومة الحزبوية، مما نكون في الحالة هذه، أمام ما يمكن تسميته بتفريغ الطاقات من محتواها الحقيقي، وإجهاض أية حالة تحاول أن تسلك سكة الارتقاء، خاصةً إذا أخذنا بعين الاعتبار، أن المثقف الكردي الذي هو وليد الحالة الاجتماعية ونتاج علاقاتها، يتعامل مع رسالته من خلال ما هو طاغٍ من سلوك ومنهج في البنية الاجتماعية، وبالتالي فإنه يتفاعل مع مهمته عبر أدوات المناكفة والصراع من أجل الصراع، بعكس ما هو مطالب به على أنه يمتلك رؤية الانفتاح، ويتحدد مهمته في البحث عن مقومات الشخصية المتحررة نوعاً ما من عقلية ما هو سائد، وعليه نكون بإرادتنا أمام حالة تخندق وتصارع بين المثقف والسياسي، بحكم أن الأول – المثقف - يعيش ذاته من خلال أدواته وهو يطمح لأن يكون له الدور والرأي في القرار والتقرير، وأن ملاكاته المعرفية تخوله لأن يتبوأ موقعه ضمن الخارطة السياسية في الحركة الكردية، بل يشغله هاجس الاستحواذ على مراكز القرار ويتصارع عليه أحياناً، وكأنه يجسد مقولة داريوش شايغان؛ بأنهم محاربون أكثر منهم مفكرون يتأملون بهدوء وراء طاولات عملهم . وأن الثاني -أي السياسي- يرى فيه المشكلة الحقيقية إذا ما احتل الموقع. ومن هنا، وبالاستناد إلى هذه الظاهرة، اعتقد أن الخلط في الدور والمهام هو الذي يطغى على رسالة المثقف، فلو كان مثقفنا على قناعة تامة بأن ما يهدف إليه من آليات وأدوات ومفاهيم في الواقع الكردي هو هدم لما هو قائم في الجانب السياسي، وسيتم مواجهته من قبل أصحاب القرار والمشيخات الحزبية، لأدرك أن دوره إذا ما أراد أن ينتج ويبدع، لا يتعدى القاعدة الاجتماعية التي يجب أن تشكل بالنسبة له الحامل الأساس للعمل عبرها من أجل التأسيس لواقع أفضل وبذهنية تأبى التصارع والتناحر والانقلاب، خاصةً وأن المرحلة بإرهاصاتها واستحقاقاتها وانكساراتها، تستدعي منه كي يجنح إلى جانب الخيار القومي للشعب الكردي، عبر مد جسور التواصل بين ما يطمحه هذا الشعب من انتزاع حريته وتحقيق هويته القومية، وبين تلك الثقافة التي تهدف إلى إنسانية الإنسان، كون الوقائع والأحداث التي تتلاحق، والخيارات الدولية المطروحة لمستقبل المنطقة، تؤكد على أننا مقبولون على مواجهة أكيدة لثقافة تشرعن للدم وتغذي ظاهرة الإرهاب ..

   خلاصة القول، ومن خلال ما نلمسه على أرض الواقع، ولأن التربة الاجتماعية ما زالت تحتضن الأنا، أعتقد أن المثقف الكردي يحمل في ذهنيته أدوات السياسي الذي يشتغل في الحقل الحزبي، بل ينافسه في النزعة، وإن كان يدعي خلاف ذلك، وإذا ما أمتلك أدواته الخاصة به، وسط الذهنية المسيطرة، سيحاول هو الآخر أن يبرهن على حضوره ووجوده وفاعليته، عبر ممارسات السياسي، كون العقلية السائدة هي العقلية الاستهلاكية في تسويق المفاهيم والأشخاص، وهذا ما يمتلكه الحزب أو الإطار السياسي ويشتغل من خلاله، وهي يجب أن لا تتوافق مع تلك العقلية التي تدعي الرسالة المعرفية، والعمل من أجل وفي سبيل المستقبل، وهنا تكمن جوهر الأزمة في الواقع الكردي الذي يتلخص في عدم امتلاكنا لرؤية حقيقية تجاه المستقبل وما نحن مطالبون به ضمن سياقاته واستحقاقاته، وإذا ما كان علينا أن نبحث في جذور الأزمة، كان لنا أن نساهم جميعاً على اقتلاع جذور هذه الذهنية الشمولية، وهي لا بد أن تمر عبر آليات التطور وامتلاك إرادة التغيير، ولا يمكن لنا أن نحقق هذه المعادلة ما دام الخلط في المفاهيم والآليات هو القانون الساري المفعول في أداء من هم يجتهدون في المجال الثقافي، وبالتالي نكون أمام رسالة، لكنها بحاجة إلى عقلية تمتلك مقومات الفكر والمعرفة الحقيقية كي تدفع بها إلى حيز التعبير .. 

 بقي أن نقول؛ أنه وبالترافق مع كل ما يجري على الساحة السورية وحالة الاستنزاف وشلالات الدم، فإن المثقف الكردي لم يخرج من قمقمه الضيق، ولم يتفاعل مع الحدث السوري انطلاقاً من حقيقة أن الثقافة هي إحدى مرتكزات الفعل السياسي وليست السياسة نفسها، وعليه لم يستطع أن يتخطى الحدود المرسومة له كظاهرة صوتية .

 

*المادة ألقيت كمحاضرة ضمن نشاطات فعاليات المجتمع المدني في كوباني – تجمع المحامين -