Share |

جكرخوين،.. شمس لا تغيب… خورشيد شوزي

الشعر الكردي بجذوره الأصيلة، الإنسان والأرض، تعتبر نماذج إبداعية عملاقة ليس في سماء الأدب الكردي فقط، بل في سماء الأدب الإنساني، والأدب الكردي، استطاع، في جزء مهم منه، أن يتغلب على ظروف محوه، كافة، ويحافظ على جزء من نصوصه المنقولة- شفاهاً- ومن بينه ما سينقل بأقلام بعض المستشرقين، أو بعض أبنائه، رغم ضياع جزء كبير من نفائس الأدب والإبداع الكرديين، رغم أن الكردي الذي آثر سواه على نفسه، وآمن بشراكة العيش معه، سها عن تشكيل كيانه، والاستئثار بجغرافيته، ليجد ذاته في دوامة الذوبان، بعد أن طرأت سياسات غريبة على مكانه، وجدت أن دورتها لا تكتمل، إلا بإزالة أي أثر له.

لكن هل هذه الحالة أبدية؟ لا ، بكل تأكيد، إنها حالة عابرة في تاريخ شعبنا، ولا بدّ أن تزول بزوال أنظمة الاحتلال والقهر، ولا بدّ أن نعود إلى لغتنا وتعود إلينا عودة الحبيب إلى الحبيب.

شهدتسماء كوردستان عـدداً كبيراً مـن الشعراء والأدباء المبدعين، الذين ولدواعلــى أرضها، وأكلوا من طيب تربتها، وتلفحوا بأريج هوائها، وتذوقوا عذوبة مائها، والتصقوا بصخور جبالها صديقهم الوحيد في السراء والضراء، شـعراء وأدباء عرفوابجودة السبكومتانة الأسلوب، وسبب ذلك عشقها السرمدي، وكأنها صرخات قلبمقطع، وأنات صدر موجع مكلوم.

ولأن الشعراء طبقة مثقفة، تضع الأمور في نصابها الصحيح، وفـي موازينهاالمـستحقة، ولأنهم كانوا يتحسسون عظم المصاب وشـدة ألمه، دواخل نفوسهم وما يعانونه من برم وضيق بحال الـدنيا وسـلوك الناس، فهـم يستخلصون العبر لهموللآخرين، لأنهم وعـوا فلسفة الوجود وسـبر غور معانيه، وأيقنوا فـي قرارة أنفسهمأنه لا خلود في الحياة الدنيا إلا لأرضهم المعطاءة.

في الزمن الجميل- لا أدري سابقاً أم الآن- كانت البيوت تمتلئ لتعيش شعراً أو ندوة،كان يومها للشعر والشعراء والإبداع عموماً قيمة كبيرة. يتبادلون الكلام حول الشعروالشعراء، الكتابة، هموم ومشاكل المثقفين والوطن، عن الآلام والآمال، عن الأوهاموالأحلام. كانوا يحاولون أن يهزموا اليأس والإقصاء من قبل السلطات الجاثمة علىصدورهم، بتبادل الآراء وإلقاء القصائد التي تعتبر وسيلة تفريغ وأداة ترميم داخلي لماهم فيه.

في البداية تساءلت هل يكفي الكلام عن مبدع عزيز غادرنا إلى الأبد؟ مع العلم بأننا كلنا موتى مؤجلون إلى حين، لأنها سنة الحياة.. في اعتقادي أن الوفاء أسمىمن الرثاء، والوفاء يملي علينا أن نفتح بعضاً من صفحات كتاب حياة وكفاح معلمنا الأكبر الراحل"جكرخوين"، ونبين مدى تأثره وتأثيره على شعبه وقضاياه الثقافية والوجدانيةوالوطنية.

والآن، وبعد ثلاثين عاماً، لا أدري هل يستطيع قلمي أن يجود ببعض من ألمه علىرحيل شاعر فذ؟ .. مع أني لم أترك لغير مشاعري تخط لحظات الشعور بالفقدان ..هكذا هي الروح عندما تستجيب بتلقائية لبلورة حزنها .. فالدموع ليست كافية ..والصمت أحياناً قد يجرح ضمائرنا المعذبة ونحن نقرأ بعضاً من حكايات رحيل أصحابالبصمات التي لا تغيب في الساحة الشعرية الكردية .. نودع جيل الرواد، ولكن الشعر سيبقى ينتج دوماً ما هو لائق به .. قررت أن أساهم بكلمات متواضعة جداًفي رثاء صادق في الذكرى الثلاثينلرحيل شاعر كبير عظيم .. مع أني على يقينبأن العظماء لا يرحلون بل يولدون من جديد كل لحظة في قلوبنا..

قلما نجـدشاعراً نظم مثله صورة صادقة لعمـق الـنفس الإنسانية والعلاقاتالاجتماعية وحب الأرض، وجعله مرآة تنعكس عليها العاطفة المشبوبة تجاه الوطنالمسلوب. لأنه استمد مادته مــن القلب وعبر عــن الشعور، فنجد فيه الشاعرالمتسق المكنون قلبه بالألم والأشجان، المؤطر بالأفكار والآراء ذو الدلالات العميقة، تعبر عــن مكنونات أنفاس بني قومه، وما يعانونه مـن ويلات ونكبات، فيرسـم ذلكبريشة جميلة على صورة أبيات تنير الدرب بأضواء تفتح المغاليق.

رحلت عنا جسداً، لكن فكرك وإبداعاتك ستبقى خالدة بقلوب وعقول أبناء الكرد، وأبياتك تطرق مسامعهم، وتزيح وشاح الحزن عن حياتهم، فنحن نراك في كل حضور وفي كل مقام ينطق بحروف صادقة، فيصبح الموت حياة من خلال الكلمة.

 

/*المقال منشور في جريدة بينوسا نو - العدد 30 - في ملف الذكرى الثلاثون على رحيل الشاعر العظيم جكرخوين