Share |

خمس وصايا للساسة الكرد من الدكتور أحمد محمود خليل

 

د. أحمد محمود الخليل :   : عشر وصايا لساسة الكرد الوصية «الخامسة»

 

ها هي الأجراس تُقرَع! فهل استعددتم للمخاطر !

 

كان الأب من الڤايكنغ- سكان إسكندنافيا القدماء- يضع سيفاً مسلولاً أمام طفله الوليد، ويقول له: "ليس لديّ ذهبٌ ولا فضّة ولا ثروة أُورثها لك، وهذا ميراثُك، حقّقْ به الرفاهية لنفسك". وما الميراث الذي نضعه نحن الكرد أمام أطفالنا حينما يولَدون؟ كومة هائلة من المشكلات: وطنٌ ممزَّق ومحتلّ، وهويّةٌ مسلوبة، وشخصيةٌ مخترَقة، وثرواتٌ منهوبة، وخصوم بذهنيات شوفينية فاشية شرسة، وعالمٌ بلا أصدقاء سوى الجبال، وأفق مسدود، ثم نقول لأطفالنا: هذا ميراثكم، حقِّقوا به كل ما تريدونه من نكد وتعاسة.

يعبر الكردي إلى الحياة فيجد نفسه أمام ثلاثة خيارات: إما الرضا بالعيش عبداً في قبضة الشوفينيين، وإما الرفض وقضاء الحياة في الزنازين أو الجبال، وإما الفرار من الوطن، وهناك تبدأ مرحلة جديدة من مراحل استلاب الشخصية. نحن الكرد نولد في فوّهات البراكين، ونُمضي الحياة في فوّهات البراكين، نولد في عالم متوحّش لا يفهم إلا القوة الباطشة، الكلّ مُصرٌّ على أن نستسلم ونقول: لا (كرد) ولا (كردستان)، هُراءٌ كلُّ ما نسمعه عن الأخوّة والقيم النبيلة، بقدر ما تكون قوياً وباطشاً تكون موجوداً ومبجَّلاً.

تلك هي الحقيقة، ودعونا نستعرض- على ضوئها- حجم المخاطر التي تهدّدنا في غربي كردستان، فالصراع السوري صراع على السلطة والثروة بين فريق سنّي وفريق علوي، وهو في جوهره جزء من صراع سنّي/شيعي إقليمي أوسع. أما بالنسبة لنا فهو صراع وجود أو لا وجود، صراع أمة تدافع عن هويتها ضد الاستلاب والانمساخ، وتتمسّك بإرادة الحياة على ترابها القومي حرة مثل بقية الأمم، ولذلك فنحن مضطرون إلى خوض الصراع على أربع جبهات في آن واحد، وكلها حافلة بالأخطار:

أولاً – صراع ضد النظام البعثي: فهو مصرّ إلى الآن على تجاهلنا كشعب، ويريدنا أن نكون فقط جزءاً من (النسيج السوري) بالكيفية التي يريدها هو، أي أن نستسلم لمشروع التدجين والصهر، ولم يتفضّل علينا في دستوره الجديد بأبسط حقوقنا الثقافية، فكيف سيوافق على أن تكون لنا إدارتنا الذاتية؟ وإذا استردّ قوته، واستقامت له الأمور، فلن يتردّد في استكمال مخطّطاته الشوفينية.

ثانياً – صراع ضد المعارضة: فالذهنيات الشوفينية مهيمنة على عدد كبير من قادتها، لا فرق بين قومي وإسلامي، وبدوي وحضري، وحقوقي وجامعي، هم جميعاً من خرّيجي ثقافة إنكار الآخر، وهل هناك مؤشّر حقيقي يدل على تراجع هذه الثقافة في الشرق الأوسط كي نتفاءل بتراجعه في سوريا؟ إنهم الآن بحاجة إلينا: داخلياً لتوهين النظام، وخارجياً للتدليل على أنهم ديمقراطيون. لكن عندما يوضَعون على المحكّ، سرعان ما تعود حليمة إلى عادتها القديمة، ويفقدون السيطرة على أنفسهم، وتفضحهم ألسنتهم، ويعترضون على أي وجود ذي معنى قومي لنا. وثمة أكثر من خطر محتمَل من جانب المعارضة:

-    الخطر الأول: تشتيتنا، وهو حاصل الآن، فنحن مشرذمون الآن بين أكثر من فريق منهم.

-    والخطر الثاني: تسليط (الجيش الحر) علينا، وقد وجّهت العناصر المسلّحة التهديد لنا أكثر من مرة، وصحيح أنهم يستهدفون الآن pydليُدخلوه بيت الطاعة، لكن الدور أتٍ على الجميع.

-    والخطر الثالث: إطلاق قطعان الانتحاريين علينا، كما هو الحال في العراق وأفغانستان الآن.

ثالثاً – صراع ضد تركيا: فها قد أعلن الفاشيون الترك عن حقهم في الدخول إلى الأراضي السورية (أي مناطقنا الكردية) لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، وإذا كانوا ينفقون المليارات لقمع الكرد في الشمال، علماً بأنهم يطالبون بالإدارة الذاتية فقط، فكيف سيقبلون أن تكون لنا إدارة ذاتية؟ أما سكوتهم على إقليم كردستان فتلك كانت غلطة، ولن يكرروها ثانية. ولا ننس أن القوى الكبرى هي مع تغيير الأنظمة التي أصبحت عبئاً عليها، لكنها لا تقبل المساس باتفاقية سايكس- بيكو، وإلا فلماذا لا تسمح للكرد في الجنوب بتأسيس دولة مستقلة؟ ولماذا تصنّف pkkفي خانة (الإرهاب)؟ إنها إذا جدّ الجدّ لن تترك حليفتها تركيا وحلفاء تركيا (المعارضة)، ولن تقف إلى جانب حقوقنا.

 

رابعاً – صراع على جبهتنا الداخلية: وهنا الخطر الأكبر، فنحن مجتمع غير متماسك، لا سياسياً ولا ثقافياً ولا اجتماعياً، واحتمالات اختراقنا كثيرة، وإلا فما معنى أن نبقى- بعد 16 شهر- غير موحَّدين حقيقة؟ أليس من الحكمة أن نتعلم من كرد الجنوب الذين توحّدوا عندما جدّ الجِدّ؟ إننا الآن مهيَّأون للاختراق من قِبل النظام السوري والمعارضة السورية وتركيا، ولا تنسوا أن لنا تراثاً عريقاً في أن يتحول بعضنا بسرعة إلى (جاش) و(حرّاس قرى) و(انتحاريين)، أجل، إن ثقافة العبودية ربّتنا على أن يكون (سيّدنا) المفضَّل أجنبياً، ويصعب على عدد غير قليل منا أن يكون (سيّدنا) كردياً.

وكي نحصّن شعبنا ضد هذه الأخطار وغيرها نرى القيام بما يلي وبأقصى سرعة ممكنة:

1 – أن تحلّ أحزابنا جميعاً أنفسها، وتنتظم في جبهة كردستانية واحدة، بهيئة قيادية عليا موسَّعة يتمّ انتخابها، ومن الضروري أن تضم شخصيات ثقافية واقتصادية واجتماعية، وشخصيات من جيراننا (عرب، أشور، سريان، أرمن، إلخ). وقد يبدو هذا الاقتراح لا واقعياً بل مستغرَباً، والذي نراه أن هذا التشرذم الحزبي هو اللاواقعي والمستغرَب في هذا الظرف الاستثنائي، ولا ندري ما حقيقة الاختلاف بين برامج أحزابنا؟ وعلى ماذا تتصارع؟ هل نحن نخوض صراعاً طبقياً، دينياً، مذهبياً، أيديولوجياً، أم نخوض صراع وجود؟ وبما أن مشكلتنا قومية أصلاً فما هو المبرر لأن نتشرذم حزبياً، ونُشرذِم الشعب فيما بيننا؟

2 – تقوم الهيئة القيادية العليا باختيار الراية القومية والراية السورية المفضَّلة، وتوحيد الرموز والشعارات، وتوحيد الخطاب السياسي داخلياً وخارجياً، واستبعاد اسم أو صورة أيّ (سروك) في المحافل العامة إلا في إطار جماعي موحَّد، ونعلم أن معظم أحزابنا تبعٌ لأحزابنا الكبرى في الشمال والجنوب، وهي بالتأكيد أحزاب ذات تراث قومي عريق، وقادتها ذوو تاريخ نضالي جدير بكل احترام، لكن نعتقد أن قادة هذه الأحزاب أكثر حكمة من أن يجعلوا أسماءهم وصورهم مصدراً لخلافاتنا، وأكثر إدراكاً لأهمية وحدة صفّنا، ولأهمية موقعنا استراتيجياً بالنسبة لهم ونحن على مرمى حجر من البحر الأبيض المتوسط، يقول الشاعر:

تأبى الرمـاحُ إذا اجتمعنَ تكسُّراً          وإذا افترقنَ تكسّرتْ آحـــــــــادا

3 – تصوغ الهيئة القيادية العليا مشروع قومياً واقعياً وعقلانياً ممكن التطبيق، وتأخذ في الحسبان الظروف السورية والإقليمية والعالمية، والدخول بناء عليها في علاقات خارجية وتحالفات داخلية، ونرى أن (الفيدرالية) هي أقصى ما يمكن أن نطالب بها في هذه الظروف، وألا نرفع السقف، وإلا فقد نخسر كل شيء، فالسياسة هي (فن الممكن)، ولا ننسى أننا ندين بالمواطنة السورية، وأن الظروف الكردستانية والإقليمية والدولية لا تسمح لنا الآن بغير التحرك ضمن هذا الإطار.

4 – تشرف الهيئة القيادية العليا على إقامة الهيئات والمؤسسات والمنظمات والمجالس التي يحتاجها مجتمعنا على جميع الأصعدة، تشريعياً، وتنفيذياً، وسياسياً، وثقافياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وخدمياً، وتشرف على صياغة البرامج والقواعد والضوابط التي يحتاجها المجتمع لتحقيق حياة آمنة.

يا ساستنا الأعزاء، إن خصومنا يقرعون لنا الأجراس، وجدير بنا أن نكون في مستوى فهم ما يدور حولنا، ونرتقي فوق ذواتنا الشخصية والحزبية، ونتوحّد، إن في التاريخ مئات الأمثلة على أننا أمة شجاعة، ونحن الآن بأمسّ الحاجة إلى اتخاذ قرارات مصيرية شجاعة، وإن في تاريخنا قوافل لا تنتهي من أبطال قدّموا أرواحهم فداء لنا، أفلا يستحقون أن نكافئهم، ونضحّي بامتيازاتنا الشخصية أو الحزبية؟ ألا يستحق أطفالنا الذين لم يولدوا بعد أن يجدوا أمامهم ميراثاً آخر غير ميراث الفرقة والنكد والتعاسة؟

وإلى اللقاء في الوصية السادسة.

 

 

د. أحمد محمود الخليل

dralkhalil@hotmail.com

27 – 7 - 2012

--------------------------------

عشر وصايا لساسة الكرد- الوصية الرابعة - د. أحمد محمود الخليل

 

 

لم أجد في تاريخ الشرق الأوسط شعباً معرّضاً على الدوام لأسوأ الأخطار أكثر من لكردي، ولم أجد في تاريخ الشرق الأوسط ساسة منشغلين بالصراعات البينية أكثر من ساسة الكرد، إن هذه الحالة المرضية المزمنة باتت تفتك بالشخصية الكردية فتكاً، فتدمّر مرتكزات الثقة بالإرادة القومية، وترسّخ الشعور باليأس، وتعطّل العقل القومي في مواجهة الأحداث، وتبدّد جهود الأمة خارج ساحات الكفاح، وتزرع في اللاشعور القومي مسلَّمة تتلخص في أن (الفرقة هي القاعدة، والوحدة هي الشذوذ).

وصحيح أن الأمة الكردية ضحية مؤامرات قوى الاستعمار إقليمياً ودولياً، لكن المسلَّمة التي رسّخها ساستنا في تاريخنا- (الفرقة هي القاعدة، والوحدة هي الشذوذ)- وجعلوها خبزاً يومياً لنا، أنزلت بنا من الكوارث ما عجز عنه المحتلون، وأخطر ما في الأمر أن هذا النهج الشاذ يعطّل الخصائص الإيجابية في شخصيتنا القومية، كنا أمة فعّالة تصنع التاريخ، فحوّلتنا تلك المسلَّمة إلى أمة منفعلة، أمة صدى للآخر، وكنا أمة رائدة في مقارعة القهر والطغاة، فحوّلتنا تلك المسلَّمة إلى أمة انتهازية، أمة مستجدية.

وأعلم أن هذا الكلام قد يُغضب كثيرين، لكن الأمة التي تهرب من الحقائق، وتتجنّب مواجهة الذات، هي أمة حكمت على نفسها بأن تبقى تابعاً وذيلاً، وسيكون مصيرها إلى زوال كأمة وإن بقيت كأفراد، وعلى أية حال ليست شهوة أن أكون همّازاً لمّازاً هجّاءً هي التي حملتني على طرق باب هذا الموضوع، وإنما ثمة حقائق أرغمتني على ذلك، وإليكم هذا المثال.

ظل الكرد في الجنوب يقارعون الأنظمة الشوفينية منذ سنة 1922، وقدّموا من الضحايا ما لم تقدّمه أمة في الشرق الأوسط، ومع ذلك عجزوا عن إقامة (إقليم كردستان)،  إلا بعد أن غزا صدام حسين الكويت، وكوّنت دول الخليج جبهة عالمية ضده، وتصارع المستعربون- سنة وشيعة- فيما بينهم على السلطة، فانتهز الكرد الفرصة، وخرجوا من الغنيمة بتأسيس إقليم كردستان على نصف الأراضي الكردية، وبإدارات مهمة غير موحَّدة، وتركوا النصف الآخر من الجغرافيا الكردية في ذمة المادة الدستورية (140)، بانتظار أن تمنّ عليهم الظروف بمعجزة أخرى، فيستعيدون النصف الآخر.

والحقيقة أن ما حققه الكرد على هامش الصراع الكويتي- الصدامي، والصراع الشيعي السنّي، هو قصر شامخ مؤسس على الملح، وزخّة مطر مفاجئة كافية لانهياره، وهناك أكثر من زخّة مطر ممكنة، وبعضها على الأبواب، وهي ترعد وتبرق في دعوات الشوفيني مِشعان الجُبوري، فهو يعرف جيداً أن قوة الكرد في العراق ليست ذاتية مئة بالمئة، إنها قوة هشّة ومرتكزة على التناقضات بين المستعربين، ويعرف أن أدنى تفاهم بين الشيعة والسنة كفيل بإفقاد الكرد كثير من أوراقهم السياسية، وإشغالهم بالدفاع عن وجودهم، فضلاً عن المطالبة بكركوك وغيرها من الجغرافيا الكردية المحتلة.

وثمة زخّة مطر أخرى ممكنة، وهي أن يحصل- بمباركة من القوى الكبرى- تفاهم لتقاسم مناطق النفوذ بين السعودية وإيران، فعندئذ ستنقلب خريطة الصرعات رأساً على عقب، وستتحول دعوات التذابح الطائفي، إلى أبواق تصدح بالأخوة العربية الفارسية، والأخوة السنّية الشيعية، والعلاقة الحميمة بين علي وعثمان، وستغيب صرخات (يا لثارت الحسين!)، وسيتحوّل المستعربون السنة والشيعة إلى إخوة في العروبة والدين، وسيصبح إقليم كردستان في مهبّ الريح، أو سيُبقى عليه في وضع (الرجل المريض)، وستتركه القوى الكبرى لمصيره، لأنها أذكى من تترك أسماكاً كبيرة، وتنشغل بسمكة صغيرة.

وإليكم مثالاً آخر، وهو غربي كردستان، فمنذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، وكصدى للثورات الكردية في الجنوب والشمال، تشكلت أحزابنا السياسية، كانت حزباً واحداً، ثم خصّها الله بنعمة التكاثر- ولِم لا؟ فالكرد شعب ولود، وليس من المعقول أن تشذّ أحزابنا عن هذه القاعدة، وأقصى ما طالب به أحزابنا على استحياء – ومن خلال النشرات- هو الحقوق الثقافية، وكان أعظم ما في تلك النشرات هو صدى، وأحياناً صدى للصدى، ومن تحت جناح تلك النشرات، مرّر الشوفينيون في سوريا كل مخطّطات القهر والصهر والتفقير والتهجير، وعندما ثارت الروح الكردية سنة (2004) كان أكبر إنجاز لأحزابنا هو إعادة الروح الكردية الثائرة إلى القمقم ثانية، وإراحة النظام الشوفيني من وجع الرأس.

وظللنا نتسكّع على الهامش، ونكتفي بإصدار النشرات وإطلاق بيانات الاستنكار، والنظام الفاشي يضحك منا في سرّه، ويشكرنا ضمناً على هذا النضال الورقي المهذَّب، إلى أن انطلقت الانتفاضة ضد النظام البعثي في آذار (2011)، وبعبارة أخرى ظللنا ننتظر إلى أن ثار المستعربون بعضهم على بعض، السنيون على العلويين، تماماً كالعراق لكن مع تعكيس الأدوار، ومع ذلك لم تجرأ أحزابنا على ترك موقع الهامش، إلا بعد أن جرجرتهم الحركة الشبابية العفوية إلى الميدان، ورأوا من الأنسب (انتهاز الفرصة)، فأعلنوا أنهم (جزء من الثورة)، وسرعان ما أصبح بعضهم على هامش (المجلس الوطني السوري)، وآخرون على هامش (هيئة التنسيق)، وفريق ثالث على هامش (الجيش الحر)، وصار الجميع يقلد (السيد)، وفي أيام الجُمع نرى العجب من ذلك التقليد البائس، حتى في اللافتات والكلمات والأهازيج.

وبتعبير آخر: مرة أخرى لم نكن في موقف الريادة، ولا من صنّاع الفعل التاريخي، كنا في موقف (الانفعال/الصدى(الانتهاز)، وإذا حدث مستقبلاً أيّ تفاهم بين الفريقين المتصارعين، فسنعود إلى حالنا السابقة، نناضل بنشرات تطييب الخواطر، وبيانات تهدئة المشاعر. لا بل إن الفريقين المتصارعين حتى وهما في قمة التذابح يعلنان جهاراً- ونحن نشكرهم على هذه الصراحة- أنهما للكرد بالمرصاد، ورغم تصريحات أردوغان النارية ضد النظام البعثي، خرج وزير خارجية النظام يقول في مؤتمر صحفي (نحن حريصون على تطبيق بنود اتفاقية أضنه)، وإلى الآن يأبى رجالات النظام من نطق كلمة (إقليم كردستان)، ويصرون على عبارة (شمال العراق).

وأما فريق المعارضة، فصرّح معظم زعمائهم- بدءاً من المالح شيخ الحقوقيين، إلى غليون شيخ الجامعيين، إلى شقفة شيخ الإخوان، إلى البشير شيخ البدو- بأن ليس للكرد سوى حق المواطنة، لا إدارة ذاتية، ولا فيدرالية، ولا كردستان غربية، وتوّجها أحدهم بعبارة (طز في الأكراد!)، وظهر العرعور شيخ السلفيين، هو يهز إصبعه ويقول مهدداً: لن نسمح لكم! لن نسمح لكم! وفهمكم كافي! أي إذا لم تلزموا حدّ (التبعية للسيد) فسأفلّت عليكم قطعان الانتحاريين، وهو مشكور جداً على هذه الصراحة، كي لا يتمترس ساستنا مستقبلاً وراء عبارة (والله ما كنا نتوقع...).

والغريب أنه رغم هذه التصريحات والتهديدات ما زال ساستنا مشغولين بحيازة المكاسب الحزبية، كل منهم يرفع علمه وشعاره على الأماكن، وكأنهم ينجزون فتوحات تاريخية، وذاك يصرح ضد ذاك في الصحف، وآخر يناور ويبيّض صفحة حزبه، ويسوق المساوئ إلى باب دار الحزب الآخر، إنهم يوقّعون الاتفاقيات لحل المشكلات، فتتحول الاتفاقيات نفسها إلى مشكلات جديدة، بحاجة إلى اتفاقيات جديدة لحلها، وبدلاً من أن يُشغلونا بتكوين الرؤية الواحدة والموقف الواحد، يزيدوننا تمزيقاً بالانحياز إلى هذا ضد ذاك، ويزيدوننا في الوقت نفسه غضباً، أليس هذا معيباً في حق شعبنا؟

والكرد في الشمال والشرق ليسوا أفضل حالاً منا، فهم يناضلون منذ قرن، وببركات أحزابهم هناك ظلوا يراوحون في المكان إلى حد كبير، وهم أيضاً بحاجة إلى معجزة تنزل عليهم من فضاء الصراعات البينية في تركيا وإيران، كي تتاح لهم الفرصة- على هامش تلك الصراعات- للفوز بالإدارة الذاتية، لكن المشكلة أن ملالي تركيا الجدد وملالي إيران قد أحكموا الطوق، وهم أذكى من البعثيين في العراق وسوريا، ولذلك فاحتمال نزول المعجزات هناك شبه معدوم على المدى المنظور.

يا ساستنا المحترمين، يعلم الله أننا لسنا هواة كتابة قصص النكد، وأننا نُجلّ من الأعماق كل من ناضل في سبيل كردستان ولو بكلمة، لكن يا إخوتنا الأعزاء، ما هكذا يتمّ تحرير كردستان من قبضة أكثر الشوفينيين توحّشاً وأكثر الفاشيين مكراً ونذالة، وما هكذا تعالَج المشكلة الكردية الأكثر تعقيداً في الشرق الأوسط، إن المطلوب- وبأسرع وقت- هو الانتقال من مواقع الانفعال/الصدى/الانتهاز إلى مواقع الفعل الثوري الحقيقي، ولن يتحقق ذلك وأنتم أسرى النرجسية الحزبية.

يا ساستنا المحترمين، تخلّوا عن المناورات والاتهامات المتبادلة، كفاكم هبوطاً إلى المنحدرات، هذا سلوك مخجل، حلّقوا في الفضاء القومي الرحيب، كونوا شامخين كقمم زاغروس وطوروس وآغري، استلهموا روح الأمة، استلهموا بطولات شهدائنا وحسرات عظمائنا في المنافي وتحت أعواد المشانق، انتظِموا جميعاً في هيئة قومية عليا بقيادة حكماء الكرد وليس بقيادة الأحزاب فقط، ضعوا البرامج والخطط.

وابدأوا صناعة التاريخ.

وإلى اللقاء في الوصية الخامسة.

24 – 7 – 2012

----------------------------------

عشر وصايا لساسة الكردد- الوصية الثالثة. أحمد محمود الخليل

 

 

حذار من تغليب الأجندات الحزبية على الأجندة القومية!

تقول أغنية فولكلورية أمريكية:

"بسبب مسمارٍ سَقط نَعل.

وبسبب نعلٍ تعثّرَ حصان.

وبسبب حصانٍ سقطَ فارس.

وبسبب فارسٍ خُسرتْ معركة.

وبسبب معركةٍ فُقدتْ مملكة". (جايمس غليك: نظرية الفوضى، ص 39).

وفي ميدان السياسة هذه هي اللاواقعية، وهذا هو الخلط في ترتيب الأولويات، وهذه هي الانتهازية، وهذا هو العجز عن إدراك العلاقة العضوية بين الأجندة الحزبية والأجندة القومية، ولتوضيح هذه العلاقة ينبغي الأخذ في الحسبان أن للسياسة غايتين: صيانة مصالح أفراد الأمة داخلياً، وصيانة مصالح الأمة خارجياً مع الأمم الأخرى. ولا يخفى أن الأمم في عالمنا المعاصر بشكل عام نوعان:

ـ أمم مستقلة: لها موقعها على خريطة العالم السياسية، وحكومتها التي تنظّم شؤونها داخلياً، وتصون مصالحها دولياً، ولها كرسيها في هيئة الأمم. إن الأحزاب في أمم كهذه تتنافس لتقديم مشاريع سياسية، ترى أنها الأجدى لصيانة مصالح الأفراد داخلياً، وصيانة مصالح الأمة خارجياً، وتدور الأحزاب جميعها في فلك الأجندة القومية/الوطنية، وعلى أساسها تقام الانتخابات وتتشكل الحكومات، وحتّى إذا شذّ حزب ما في الانتهازية السياسية، فإن ضرره يظل محدوداً، وتبقى الأمة متماسكة ومحتفظة بكيانها.

– أمم مستعمَرة: أرضها محتلة، لا موقع لها على خريطة العالم السياسية، ولا حكومة خاصة بها، ولا كرسي لها في هيئة الأمم، وهي تتعرض للقهر والصهر، ويضع المحتل الخطط لتجهيلها معرفياً، وتفريغ ذاكرتها تاريخياً، وتفقيرها اقتصادياً، وتمييعها أخلاقياً، وتفتيتها اجتماعياً، تمهيداً لرميها خارج التاريخ وإلى الأبد. والأمة الكردية مثال لهذا النمط، وفي حال أمة كهذه لا جدوى في التشظّي الحزبي، وإنما يكون الخلاص بوجود إطار مرجعي سياسي قومي موحَّد وموحِّد، يصون الأمة من الاندثار.

إن الإطار المرجعي هو أجندة قومية شاملة، ينتظم فيها ساسة الأمة بمختلف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقبَلية والطبقية والمناطقية، ويمكن أن يختلفوا في الفروع، لكنهم يجتمعون على الأصول، ويعملون لهدف قومي واحد، ويدورون في فلك مشروع قومي واحد يتلخص في عبارتين (تحرير الوطن، وإقامة الدولة المستقلة)، مع ضرورة عدم الانفصال عن الواقع، وعدم إدارة الظهر للشروط والظروف الداخلية والخارجية، وعدم التوهم بأن هدفاً كبيراً كهذا يمكن تحقيقه بكبسة زرّ.

وتعالوا الآن نتساءل: ما حال الأجندة الكردية السياسية القومية؟

يقول شاعر أوربي: "أحلم بالهرب ولكن، تتملّكني همسات داخلية" (جدسون جيروم: دليل الشاعر، ص 3)،ويؤلمني أن أقول: كان بودّي أن أتهرّب من الإجابة عن هذا السؤال، بل لا أخفي أنني أتهرّب من سؤال آخر يطاردني بعناد، وهو: هل ثمة أجندة كردية سياسية قومية؟ لكن مقولة النُّفَّري- ذلك المفكّر العظيم، ابن مدينة (نِيپُور) السومرية: ""أوقفني وراء الموقف، وقال لي: الكونُ موقف" (النُّفَّري: المخاطبات ص 63)،تنتصب أمامي، وتمسكني من خناقي، ولا أجد بُدّاً من الإجابة.

فمنذ ثورة الشهيد شيخ سعيد سنة (1925)، وإلى آخر شهيد ربما يكون قد سقط في الزنازين أو في ساحات الكفاح وأنا أكتب هذه الكلمات، ومع كل هذا العدد الكبير من الأحزاب، ومع جهود كل القيادات- مع احترامي الجمّ والعميق لهم كأفراد- ومع كل هذا الكمّ الهائل من الشعارات، والنشرات، والمؤتمرات، والاجتماعات، والبيانات، والنضالات، والانهزامات وهي كثيرة، والانتصارات وهي قليلة، هل كانت توجد أجندة سياسية كردستانية موحّدة؟ وهل هي موجود الآن؟

لو كانت ثمة أجندة سياسية كردستانية موحَّدة، هل كانت ثورة (1925) تقع ضحية الصراعات القَبَلية من جانب، والصراعات الطائفية بين الكرد السُنّة والكرد العلويين من جانب آخر؟ هل كانت الأحزاب الكردستانية تتقاتل فيما بينها لتحقيق مكاسب حزبية؟ هل كانت أهم الإدارات في كردستان الجنوبية تبقى منفصلة طوال عشرين عاماً؟ هل كان الكرد يبقون منقسمين بين الولاء لهذا (السروك) ولذاك (السروك)؟ هل كان الكرد يبقون عاجزين إلى الآن عن التخاطب بلغة واحدة والكتابة بخط واحد؟ هل كان الكرد يظلون منقسمين إلى الآن بين حمل راية قومية من شكل وراية قومية من شكل آخر؟

ودعونا نضيّق الدائرة، ونركز على غربي كردستان، فلو كانت ثمة أجندة قومية موحَّدة، هل كان يتوالد بين ثلاثة ملايين كردي حوالي عشرين حزباً وحركة سياسية متصارعة، وما يزال التشظّي قائماً؟ أليس المنطق القومي يتطلب أن تكون ثمة جبهة قومية تنتظم ضمنها الأحزاب كلها؟ أليست هذه الظاهرة أكثر من شاذة حتى بالمعايير السياسية الرخوة؟ أليست حال أحزابنا في غربي كردستان أشبه بسجناء يتصارعون على من يكون الزعيم في السجن، بدل العمل معاً للخلاص من السجن والسجّان؟

ولو كانت ثمة أجندة كردستانية موحَّدة هل كانت أحزابنا تتنازع بمجرد نشوب الثورة في سوريا، ويصبح بعض الكرد من (موالي) المجلس الوطني السوري، وبعض الكرد من (موالي) هيئة التنسيق الوطنية السورية، وبعض الكرد من (موالي) النظام السوري؟ وهل كانت مظاهرات شعبنا ستكون مختلفة الأمكنة والشعارات والألوان؟ وهل كانت أحزابنا تتصارع على من يكون السيّد الأوحد في الساحة؟ ألسنا نلهث الآن خلف ثورة قام بها غيرنا، ويقودها غيرنا، وسيوظّفها غيرنا لمصالحه؟ ألا تذكّرنا هذه الحال بانشطار أجدادنا إلى موالين للصفويين وموالين للعثمانيين، ألسنا الآن أمام بوادر من أن يتحول بعض الكرد إلى موالين لإيران سليلة الصفويين، وآخرون موالين لتركيا سليلة العثمانيين؟

أليست هذه الانقسامات، والجري خلف تحشيد الجماهير واختطافها، ورمي الاتهامات في وجوه الآخرين، دليلاً على أن أحزابنا فقدت البوصلة القومية، وهي تهتدي بالبوصلة الحزبية؟ أليست دليلاً على أن أحزابنا منشغلة بالأجندات الحزبية إلى حدّ العشق، ووضعت الأجندة الكردستانية جانباً؟

ويؤسفنا ويؤلمنا أن نقول: مع كل هذه الصراعات الحزبية، والجري وراء السيادية التي لا شريك لها، والسروكاتية التي تُختزَل فيها القضية القومية، ومع كل هذا الهوس بالأجندات الحزبية والشخصية، ومع كل هذه المناورات للهرب من الأجندة الكردستانية الموحَّدة، كيف لا يستمر المحتالون في احتلال كردستان؟ وكيف لا يستمرون في إذلال شعبنا وتصنيفه في خانة (أقليات)؟ وكيف لا يستمرون في نهب ثرواتنا؟ وكيف لا يرفضون تسميتنا (شعباً)؟ وكيف لا يشبّهونا بمهاجري فرنسا؟ وكيف لا يتجرّأون على أن يقولوا في المؤتمرات "طز في الأكراد!" ؟ وكيف لا يطعن شبابنا بعضهم بالسكاكين؟ وكيف لا يجري بعضهم خلف "الجيش الحر" ويستجديه لتأديب بعضنا الآخر؟

يا ساستنا المحترمين، حذار من تضييع "مملكة" جرياً خلف "مسمار"! وحذار من التضحية بالأمة الكردية على مذابح السياديات الحزبية! وحذار من تأليه الأجندات الحزبية وتغييب الأجندة القومية! فما يُدَبَّر لنا أخطر وأكبر من أن يتصدّى له حزب واحد، ولا خلاص لنا إلا بالأجندة القومية.

فهل أنتم فاعلون؟

وإلى اللقاء في الوصية الرابعة.

22 – 7 – 2012

 

---------------------------------------

عشر وصايا لساسة الكرد - الوصية الثانية: حذار من اللاواقعية السياسية!

 

 

كتب مارك فِيرو متحدثاً عن الغزو الأوربي لبعض القبائل البدائية: "عندما رأى الأبوريجين للمرة الأولى رجلاً أبيض يمتطي حصاناً، ظنوا أنهما يشكلان معاً كائناً واحداً، ولم يكتشفوا خطأهم إلا عندما ترجّل الرجل مِن على الحصان". [مارك فِيرو: الاستعمار، ص 84]. تلك هي حال السياسي المنفصل عن الواقع، إذ تختلط عليه الأمور، ويعجز عن تمييز الواقع من الوهم، ولتفصيل البحث في هذا المجال، دعونا نستعرض أسس الواقعية السياسية.

 

أسس الواقعية السياسية:

 

لقد قيل: السياسة هي "عِلم حُكم الدول،... ومعرفة كل ما له علاقةٌ بفنّ حُكم الدولة وإدارة علاقاتها مع الدول الأخرى". [موريس دوفرجيه: علم اجتماع السياسة، ص 19]. وقيل أيضاً: "السياسة هي عِلم العلاقات بين الناس". [ريجيس دوبريه: نقد العقل السياسي، ص 462]. ويستفاد من هذين التعريفين أن (السياسة) تتكون من ثلاثة أسس متداخلة متفاعلة:

 

1- السياسة (علم): أيْ هي معرفة ونظريات وقواعد ومعلومات، وهذا يعني ضمناً أن السياسة ليست ارتجالاً، ولا حقلاً للتجارب الاعتباطية، ولا جرياً خلف الأهواء، ولا وقوعاً تحت سلطة الغرائز، ويعني أيضاً أن كل قول سياسي، أو سلوك سياسي، أو بناء علاقة سياسية، أو عقد تحالف سياسي، أو الدخول في معركة سياسية، لا يتأسس على العلم والمعرفة والقواعد والمعلومات، يندرج- شئنا أم أبينا- في خانة الخرافات والأساطير، ومتى كانت الخرافة تحقق مكاسب قومية ووطنية؟

 

2- السياسة (حُكم): أيْ هي ممارسة وخبرة، وفعلٌ وتفاعل، وتعاملٌ مع الإيجابيات والسلبيات، وأخذٌ وعطاء، وربحٌ وخسارة، ونجاحٌ وفشل، إنه تعديلٌ وتغيير في الواقع، وليست غرقاً في التنظير، ولا تخبّطاً في الفراغ، ولا انفصالاً عن الواقع، ولا أحلاماً، إن ما جاء في "جمهورية أفلاطون" المثالية جداً لم تتحول إلى واقع، ولا كذلك ما جاء في "مدينة الله" للقدّيس أوغسطين، وما جاء في "المدينة الفاضلة" للفارابي؛ إنها بقيت مجرد تنظيرات مدفونة في طيّات الكتب.

 

3– السياسة (هدف): أيْ أنها ليست فعلاً عبثياً، إنها تهدف إلى الدفاع عن مصالح الأفراد والشعوب، وتنظيم العلاقات على محورين: تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات ضمن شعب /وطن واحد، وتنظيم العلاقات سلماً وحرباً بين شعوب/ دول متنوّعة، وكيف يمكن الدفاع عن المصالح وتنظيم العلاقات داخلياً وخارجياً، في غياب العقل والانفصال عن الواقع؟

 

وقد قلنا سابقاً: إن تآمر أنظمة الاحتلال على الشعب الكردي قروناً طويلة، وتغييبه عن التفاعل سياسياً وثقافياً وحضارياً، أدّى إلى تعميم الجهل في المجتمع الكردي، لكن عشق الكرد للحرية المتوقّد دائماً كنار أهورامزدا المقدسة، دفعهم إلى الثورة، فخاضوا ميادين الثورات والسياسة وهم مثقلون بتركة الجهل الناجم عن عصور الاحتلالات، واضطروا إلى ارتجال كثير من المواقف السياسة، والعجز عن التعامل بقدر كاف من الواقعية داخلياً وإقليمياً ودولياً، وكان الفشل متكرراً، وكانت الكوارث هائلة.

 

تلك كانت الحال سابقاً، لكن الآن، وبعد أن تخرّج عدد لا بأس به من شعبنا في الجامعات، وأجاد كثيرون اللغات الأجنبية، وأصبح العلم متاحاً لمن يرغب فيه، بفضل تكنولوجيا المعلومات الحديثة، فما المبرر لأن يظل السياسي الكردي في دائرة الارتجال؟ ما الذي يمنعه من الاستعانة بأهل العلم والخبرة؟ وما الذي يمنعه من تطوير معلوماته ومعرفته السياسة؟ وما الذي يمنعه من التحرر من الفكر الريفي القبلي الرعوي، وإحلال الفكر العلمي محلّه؟ أليس الفكر العلمي هو مفتاح الواقعية السياسية؟

 

سمات الواقعية السياسية:

 

إضافة إلى ما سبق، ثمة ستّ سمات مهمة وثيقة الصلة بالواقعية السياسية، وهي التالية:

 

1ـ تمييز الممكن من المستحيل: لقد قيل: "السياسة فنّ الممكن" [نورتون فريش، ريتشارد ستيفنز: الفكر السياسي الأمريكي، ص 8]، وهذا يعني أن السياسي الواقعي ذكّي بما فيه الكفاية، فلا يخلط بين الممكن والمستحيل، ولا يقع في فخّ الديماغوجية، ولا يلهث خلف الخطابات الحماسية وإطلاق الوعود الخلابة، ليستجدي تصفيق الجماهير، وليقودهم بعد مدة قصيرة أو طويلة إلى الكوارث.

 

2- التدقيق في التفاصيل: قال كونفوشيوس ذات مرة: "إذا لم يكن من عادة الشخص أن يقول: ماذا أرى في هذا؟ فإني لا أستطيع أن أفعل له شيئاً". [ول ديورانت: قصة الحضارة، 4/41]، والسياسي الذي لا يضع نفسه معظم الأحيان في مواجهة السؤال (ما هذا؟)، ماذا تعني هذه الكلمة وهذه الجملة؟ ماذا يعني هذا السلوك وهذا الموقف؟ ويترك الأمور تمر تحت سمعه وبصره وعقله دون تدقيق، سيحقق أرقاماً قياسية في ارتكاب الأخطاء السياسية، وسيجرّ شعبه ووطنه إلى دفع المهالك.

 

3- حساب الربح والخسارة: قيل: السياسة هي "إزالة أكبر قدر ممكن من الشر بإحداث أقلّ قدر ممكن من العداء". [نورتون فريش، ريتشارد ستيفنز: الفكر السياسي الأمريكي، ص 8]، وهذا يعني أن السياسي الواقعي لا يكون هاوي حروب، ولا باحثاً عن البطولات الشخصية والأمجاد الجوفاء على حساب شعبه ووطنه، إن حسّه الواقعي يجعله على بصيرة تامة بقيمة كل كلمة أو سلوك أو موقف سياسي يتخذه، ويسأل نفسه: كم يربح شعبي وكم يخسر إذا قلت كذا أو فعلت كذا؟

 

4- تحديد العدوّ: قال السياسي الألماني كارل شميث: "السياسة هي قبل كل شيء تحديد العدوّ". [إريك لوران: حرب آل بوش، ص 19]، وتحديد العدوّ بحاجة إلى قدر كبير من الواقعية، فالساسة الجهلة والأغبياء والحمقى هم الذين يسرعون إلى الخلط بين الصديق والعدوّ، وبين العدوّ المؤقّت الأقل ضرراً والعدوّ الاستراتيجي الأكثر ضرراً، وبين العدوّ الذي يمكن تحويله إلى حليف والعدوّ الذي لا يتزحزح عن عدائه، ولا شك في أن أكثر الساسة جهلاً وغباء وحماقة هم الذي يحوّلون الأصدقاء إلى أعداء.

 

5– تحديد المشكلات: قال مَكْنَمارا، وهو وزير دفاع أمريكي سابق: " حدِّد المشكلة تحصلْ على الحل" [إريك لوران: حرب آل بوش، ص 115]، وهذه واحدة من أهم لوازم الواقعية السياسية، فالسياسي في الأصل هو رجل درْء المشكلات من جانب، وحلّ المشكلات من جانب، فكيف يكون موفَّقاً في هذا وذاك إذا كان غير قادر على تحديد المشكلة ومصدرها وحجمها وخطورتها؟

 

6- ترتيب الأولويات: من الطبيعي أن يجد السياسي أمامه مجموعة أهداف مطلوب منه تحقيقُها، فعليه  أن يتفحّصها، ويميّز الممكن منها من المستحيل، ثم يعيد ترتيبها من حيث أولوية التنفيذ، آخذاً الظروفَ الذاتية والموضوعية بالحسبان، لا بل عليه أن يهيّئ الظروف والشروط المساعدة على تحقيق الهدف، إن سياسياً لا يجيد ترتيب الأولويات، ويضع العربة أمام الحصان، هو بلاء على شعبه.

 

كان بودّنا أن نقدّم أمثلة توضيحية لكل محور من المحاور السابقة، لكنا تجنّبنا ذلك خوفَ الإطالة، ولثقتنا بقدرة القارئ الكردي عامة، والسياسي الكردي خاصة، على استحضار أكثر من مثال لكل محور، سواء من تاريخنا القديم أم من تاريخنا الحديث، بل ومن وضعنا السياسي الراهن أيضاً.

وإلى اللقاء في الوصية الثالثة. 

 

د. أحمد محمود الخليل

dralkhalil@hotmail.com

20 – 7 - 2012

 

-----------------------------------

 

  عشر وصايا لساسة الكرد – الوصية الأولى: حذار من حماوة الرأس  !

 

خطابي هذا موجّه إلى السادة ساسة غربي كردستان خاصة، ولعل فيه فائدة للسادة ساسة الكرد عامة، والحقيقة أني لست راضياً عن استعمال كلمة (وصايا) ، لكن لم أجد أنسب منها، فالبديلان (نصائح) و(إرشادات) يحملان دلالات فوقية أيضاً، وهذا ما لا نريده، وإنما الغرض هو أن نفكر مع ساستنا في هذه المرحلة  الخطرة جداً من تاريخ أمتنا، وقد دفعتني بعض المواقف والظاهرات المثيرة للانتباه في الأشهر الأخيرة إلى كتابة هذه الوصايا، وآمل أن يكون صبر الإخوة الساسة عليّ طويلاً.

ولا يغيب عنا- ونحن نكتب هذه الوصايا- أن أنظمة الاحتلال التي تسلّطت على الكرد طوال قرون، همّشتهم في جميع المجالات، وخاصة في المجال السياسي داخلياً وإقليمياً وعالمياً، وكانت النتيجة افتقارهم إلى بعض المهارات في التعامل مع الأحداث السياسية، سواء داخل البيت الكردي نفسه أم في التعامل مع الأصدقاء والخصوم، ونعتقد أن هذه الحال مؤقتة، وسيصبح ساستنا، عبر تعاملهم مع الأحداث، أكثر خبرة وأصلب عوداً وأغنى تجربة في مجال العلاقات السياسية، ودعونا نبدأ بالوصية الأولى.

حذار من حماوة الرأس!

أجل، فحماوة الرأس واحدة من الخصائص المتأصلة في الشخصية الكردية، إن الكردي يثور بشكل مفاجئ عندما يحس أن أحداً يستغفله، أو ينتقصه، أو يتلاعب به، أو لا يتعامل معه بتهذيب، وعندما يثور يفقد السيطرة على نفسه وعلى خطابه، ويتحوّل من شخص هادئ إلى عاصفة هوجاء، وفي الغالب يتصرف بقدر كبير من الارتجال، ويصل به الغضب أحياناً إلى درجة الفظاظة كرد فعل.

إن حماوة الرأس في المواقف التفاوضية، والتصرف بردود أفعال غير محسوبة، وبسلوكيات فيها قدر من الفظاظة وفلتان اللسان، يؤدّي إلى أن المتفاوض يقول ما كان ينبغي أن يتكتّم عليه، ويخرج على قاعدة التزام الأولويات، وقاعدة تحويل الخصم إلى صديق أو متعاطف أو محايد، ويخسر معظم أوراقه، وهذا ما يريده الخصم السياسي، وقد كتبنا ذات مرة أن الكردي يخسر على طاولة المفاوضات ما يكسبه في ميادين القتال.

ونذكّر السياسي الكردي بما قاله السياسي الإيطالي نيقولا مكياڤيللي موجّهاً، خطابه إلى رجل السياسة متمثّلاً في شخص (الأمير): “وعلى الأمير أن يكون حريصاً على ألاّ يَفضح نفسه بأقواله، … لأنّ الناس عموماً يحكمون بعيونهم أكثر من أيديهم، ولأن في وُسع كل إنسان أن يرى، بينما لا يشعر به إلا القليلون، فجميع الناس يرون ما تعمل، وكيف تبدو لهم، أما القلة فيحسّون حقيقتك”. (الأمير، ص 150).

ونتمنّى أن يكون السياسي الكردي قادراً على أن يكون (داهية) بالمعنى السياسي للدهاء، وهي الحِنكة، والبراعة في المناورة، وشنّ حملات محدودة على الخصم واحدة تلو أخرى لزحزحته عن موقفه بالتدريج، وامتصاص الأقوال والسلوكيات العنيفة التي يصبّها الخصم عليه، وعدم الانجرار إلى المواقع التي يريد الخصم أن يجرها إليه، تلك المواقع التي يكون الخصم فيها هو الأقوى، وهو الأقدر على تمرير شروطه.

حقاً ينبغي أن يكون السياسي الكردي ضابطاً لنفسه، متحكّماً في أقواله وتصرفاته، يشن الهجوم بالتدريج حينما تكون الفرصة مواتية، ويتراجع بسلاسة حينما تكون المعركة خاسرة، وخاصة في هذا العصر الذي تسجّل فيه وسائل الإعلام صوتاً وصورة كل حركة وسكنة، وتوظّفها بعدئذ لأغراضها الخاصة تمجيداً أو تشويهاً.

ونذكّر السياسي الكردي في موضوع الحنكة والدهاء بقول نيقولا مكياڤيللي: ” وعلى الأمير … أن يقلّد الثعلب والأسد معاً؛ إذ إن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الأشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب؛ ولذا يتحتّم عليه أن يكون ثعلباً ليميّز الفِخاخ، وأسداً ليُرهب الذئاب، وكلُّ من يرغب في أن يكون مجرد أسد ليس إلاّ لا يفهم هذا”. (الأمير، ص 148).

ولله درّ صلاح الدين الأيوبي في هذا المجال قبل أن يكون سلطاناً، وبعد أن أصبح سلطاناً، وإليكم هذا المثال: كان الفرنج (الصليبيون) يهدّدون مصر، فطلب الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله المساعدةَ من السلطان التركماني نور الدين زَنكي في دمشق، فأرسل إليه ثلاث مرات جيشاً بقيادة القائد الكردي شَيرگُوه بن شادي، وكان شَيرگُوه يستصحب معه كل مرة ابن أخيه صلاح الدين بن أيوب (نجم الدين)، وفي المرة الثالثة توفّي شَيرگُوه في مصر، وأصبح صلاح الدين قائد الجيش الشامي، واتخذه الخليفة الفاطمي وزيراً له، وكان صلاح الدين ذكياً حصيفاً متواضعاً، وأزال كثيراً من أشكال الظلم والقهر عن كاهل الشعب المصري، فأحبّه الخليفة وأحبّه المصريون.

والحقيقة أن القوة القتالية في جيش السلطان نور الدين كانت تتألف بصورة أساسية من المقاتلين التركمان والمقاتلين الكرد، وكانت المنافسة بين الفريقين شديدة، وقد نقل الضباط التركمان الذين كانوا مع صلاح الدين إلى السلطان نور الدين حبَّ الخليفة العاضد والشعب المصري لصلاح الدين، وحذّروه من إمكانية أن يستقل صلاح الدين عنه مستقبلاً، ويقيم سلطة كردية هناك، ونصحوه بأن يعزله عن قيادة الجيش الشامي.

وأخذ السلطان نور الدين بنصيحة أولئك القادة، وقرر التخلص من صلاح الدين، وشرع يوجّه إليه المضايقات، ويستفزّه مرة تلو أخرى، ويعمل لاستدراجه إلى التمرد عليه،  كي يعزله ويعاقبه ويقضي عليه، لكن صلاح الدين كان متنبّهاً إلى ما يُدبَّر له، ضابطاً لنفسه، غير متهوّر، ولم يمكّن السلطان من نفسه، وقد ذكر هو نفسه محنته مع مضايقات نور الدين قائلاً:

” والله لقد صبرتُ منه على حَزّ المُدى وخَزّ الإبر، … وما قَدِر أحدٌ من أصحابه أن يجد عليّ ما يَعتدُّه ذنْباً، ولقد اجتهد هو نفسه أيضاً أن يجد لي هفوة ويَعتدّها عليّ فلم يقدر، ولقد كان يعتمد في مخاطباتي ومراسلتي الأشياء التي لا يُصبَر على مثلها، لعلي أتضرّر أو أتغيّر، فيكون ذلك وسيلة إلى منابذتي، فما أبلغته أَرَبه يومًا قطّ ” (أبو شامة: عيون الروضتَين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، 1/442).

فحبّذا أن ينهج ساستنا اليوم نهج صلاح الدين في ضبط النفس، والتعامل مع الأمور بأعصاب هادئة ونفَس طويل وصبر كصبر النبي أيوب، فلا بد أن يتعرضوا إلى مواقف هي اشدّ من وخز الإبر وحزّ المُدى، وحبذا أن يتركوا خصلة حماوة الرأس وسرعة الفوَران وشدّة الثوَران جانباً، وأن تكون تصرفاتهم وكلماتهم محسوبة بدقة في المواقف التفاوضية، وأيضاً في ميادين عرض القضية الكردية أمام الرأي العام.

وإلى اللقاء في الوصية الثانية.

17 – 7 – 2012