Share |

دراسة في أدب الفولكلور الكردي - الحلقة السادسة2/2.. الحكاية الشعبية …حيدر عمر

 

الحكايات الشعبية تكون من البشر، وبعضها يتحدث عن أحداث تاريخية و وقائع حقيقية، و تصور صفحة من صفحات النضال الكردي في مواجهة الأعداء، ولعل أكثر هذه الحكايات تداولاً هي حكاية " فرسان مريوان الاثني عشر "،

التي تحكي قصة بطولة اثني عشر مقاتلاً كردياً صمدوا في مواجهة جيش فارسي قوامه اثنى عشر ألف جندي، و لم يسلِّموه قلعة " مريوان "، بل قاتلوا إلى أن استشهدوا. هذه الحكاية مازالت تُتَداول بين الكرد شفاهاَ، و لم تُدوَّن، و قد نظَّم أحداثَها الشاعر پيره ميرد  ( 1867– 1950 ) في قالب شعري عام  ( 1935 ) مما سمعه من أبيه، الذي كان بدوره قد سمعها من أبيه، جدِّ پيره ميرد.

و كذلك حكاية " زمبيلفروش / بائع السلال "( ) تشكِّل نموذجاً لها. إنها حكاية شعرية( ) معروفة في أجزاء كردستان الأربعة، و لها روايات متعددة، "بجميع لهجات اللغة الكردية مثل باديني، سوراني، هَوْرامي، بوتاني، و موكرياني"( )، و شغلت أدباء و شعراء و باحثين كُرداً كثيرين، فكتبوا عنها دارسين و محللين،و انتقلت إلى الأدب المدوًّن بريشة الشعراء فقي تيران ( 1563  - 1650 ) و ملا باتَيِي ( 1675 – 1760 ) و مراد خان بايزيدي ( 1737 – 1794 ) و فيريك أُوسيڤ ( 1934– 1997 ). إلا أن النص المنسوب إلى مراد خان بايزيدي أكثر دوراناً على الألسن.( )" اهتم بها الكردولوجيون من بعض الدول الأوروبية، فجمعوها و ترجموها إلى اللغات العربية و الروسية و السويدية و الأرمنية و الألمانية.( )

أحداث الحكاية تدور حول ابن أحد الأمراء، اسمه " محمد أمين "، تلقَّى تربيته و تعليمه في قصر ابيه الأمير. خرج ذات يوم إلى الصيد، يرافقه مستشاره أو أحد وزراء الإمارة، و أثناء العودة رأى جمجمة بشرية بجانب قبر مفتوح أو حفرة في مقبرة، و لم يكن يعرف شيئاً عن الموت و أموراً أخرى كثيرة ، فسأل مرافقه عنها، فأجاب إنها جمجمة شخص مات منذ زمن، فأعاد السؤال هذه المرة عن الموت، و عما إذا كان موت صاحب تلك الجمجمة عن جوع. عندئذٍ حدثه مرافقه عن الفقر و الغنى، عن الحياة و الموت، عن القيامة و الحساب، عن الجنة و النار و عن مساواة الموت بين جميع الناس، فقيرهم و غنيِّهم، و ما إلى ذلك. لم ينم ذاك الفتى ليلته تلك، بل ظل يفكر بما حدَّثه به مرافقه، و عندما حلَ الصباح، لم يجده أهله و خدمه في القصر. كان الفتي قد ترك قصر الإمارة، و ارتدى ثياب الدراويش، و ذهب في سبيله يبحث عن عمل ليعيش من كدِّه و عرق جبينه.

 رأى في طريقه ناساً يجمعون عيدان القصب، و يصنعون منها سلالاً، يبيعونها في القرى و المدن، و يكسبون بذلك قوت يومهم، فانضم إليهم، و تزوَّج منهم، و راح يجمع العيدان مثلهم، و تعلم منهم صنع السلال، وصار  يتنقَّل بين المدن و القرى، ينادي على بضاعته، و اكتسب لقب " زَمْبيلفروش " من عمله هذا.

كان هذا الفتى وسيماً كما تقول الحكاية، و كان صوته عذباً. بعد سنوات كثيرة، وبينما كان ذات مرة ينادي على بضاعته في مدينة "فارقين "، و يمرُّ من جانب قصر الأمير، تسمعه " گلخاتون " زوجة الأمير، فتعشق صوته، فترسل بعض الخدم، لإحضاره إلى القصر بدعوى أن الأمير  يريد أن يشتري سلالاً.

لم يكن الأمير  يومئذٍ في القصر، و لم تكن غاية زوجة الأمير شراء السلال. بل كانت تريد استمالته، و كسبه إلى جانبها، و طالبته بأن يخلع ثيابه، إلا أن الرجل، كان تقياً يخاف الله، و يمتثل لطاعته، فرفض الأمر، عندئذٍ حبسته زوجة الأمير في إحدى غرف القصر، في الطوابق العليا.

فضَّل الرجل الموت على الزنى، و صمم على أن يلقي بنفسه من الأعلى إلى الأسفل، فمال إلى الحيلة، و طلب أن يتوضأ للصلاة، فربطت زوجة الأمير  رجله بحبل، و جعلت  طرف الحبل في يدها، كي لا يهرب، إلا أنه بعد ما صار في الحمام، حلَّ الحبل من رجله، و ربط الإبريق به، و قفز من الأعلى نحو الأسفل،( بعد ذلك تختلف الروايات، فتذهب إحداها إلى أنه تمزَّق إرباً إرباً، بينما تذهب رواية أخرى إلى أن الملاك جبرائيل أمسك به و وضعه على الأرض سالماً )، و هرب إلى بيته، و حين علمت زوجة الأمير بذلك، راحت تلاحقه من مكان إلى آخر.

هنا أيضاً تختلف روايات القصة، فتذهب إحداها إلى أنهما التقيا في قمة جبل، و تعاهدا أن يصبحا أخوين، أخاً و أختاً. و ثانية تذهب إلى أنهما التقيا عند نبع، و رغبت " گلخاتون " زوجة الأمير أن تقبِّله، و إذ مدَّت لسانها في فمه، ماتا معاً، بينما تذهب رواية ثالثة إلى أن ناراً اندلعت من فمها، فيحترقان معاً. و يدخلان الجنة، و يصيبان مرادهما فيها، و رواية رابعة  تذهب إلى أنهما تزوجا، و خامسة تدَّعي أن " گلخاتون " تقتل زوجها الأمير، حين حاول أن يقتل  "زمبيلفروش "، ثم رحل الجميع  ( گلخاتون، زمبيلفروش و زوجته و أولاده ) إلى مكان بعيد، ليس فيه أمراء، و سادسة  تذهب إلى أنهما تعاهدا على أن يتباعدا، و يعود " زمبيلفروش " إلى أهله و ذويه، ثم يذهب إلى " ديار بكر " بناء على طلب أبيه، و يصبح أميراً لها( ).

نجد في هذه الحكاية  تقديراً كبيراً للعمل و  تثميناً عالياً للكدح، حيث يصرُّ " زمبيلفروش " على  أن يعيش و يعيل أسرته من كدحه و عمله. و هي من جهة أخرى تبرز حرية المرأة في الحب، و اختيار مَن تحب، و انتقلت إلى الأدب الكردي المدوَّن كما قلنا سابقاً. إلا أن قيمتها الكبرى، في نظرنا، تكمن في أنها تمثَّل نموذجاً للمثاقفة في الثقافة الشعبية الكردية.

حكاية " أمير بوتان "( ) إحدى  حكايات المجموعة التي جمعتها و نشرتها رقية أوزمَن، و هي تتحدَّث عن زواج أحد أمراء "بوتان". تقول الحكاية: خرج أمير بوتان ذات يوم متنكِّراً، رافقه أربعة من رجال حاشيته متنكرين أيضاً في هيئة الدراويش، و مضوا حتى وصلوا مخيَّم إلى مزدحم بالخيام، فخيَّموا بجواره. في صبيحة اليوم التالي، راح الأمير و مرافقوه يتجوَّلون بين الخيام، فلمح الأمير فتاة جميلة، مال قلبه إليها، فأرسل مرافقيه للسؤال عن خيمة أبيها.

بعد أن تعرَّف المرافقون على خيمة أبي الفتاة، أرسلهم الأمير إليه، ليخطبوها له، إلا أن الأب رفض الأمر، و حين أعلموا الأمير برفض أبيها، أرسلهم ثانية، ليخطبوها مهما كان مهرها غالياً.

وافق الأب تزويج ابنته من الأمير، دون أن يعرف أنه أمير، و بعد بضعة أيام أعطى الأميرُ زوجتَه خاتماً و سواراً ذهبيين، بعد أن نقش اسمه عليهما، و أخبرها برحيله دون أن ترافقه، و أوصاها إذا ما ولدت أنثى، فلتضع السوار في معصمها، أما إذا ولدت ذكراً، فلتضع الخاتم في اصبعه.

وضعت المرأة توأمين ذكرين، فأطلقت اسم " سَرْكان " على أحدهما، و وضعت الخاتم في اصبعه، وعلى الآخر اسم " ژيندار "  و وضعت السوار في معصمه. بعد أن كبر الأخَوان، اختلف " سَرْكان " مع أحد الفتيان، و ضربه، فجاءت أمه، و أنَّبته و عيَّرته بأن أباه غير معروف، فما كان من الأخوين إلا أن يمضيا بحثاً عن أبيهما، فأضاع كل منهما الآخر في المدينة.

التقى " سَرْكان " بائع حلوى، لا أولاد له، فتبناه هذا، و صار  يعمل معه في متجره لبيع الحلوى. تقول الحكاية إنه كان شاباً وسيماً جميل المحيَّا، و انتشر خبره جماله في المدينة، فصار الناس يتهافتون على شراء الحلوى لا رغبة فيها، بل في أن يرَوْا الشاب الجميل و الوسيم. و تناهى خبر جماله إلى سَمْع ابنة الوزير، و كان قصره غير بعيد عن متجر بائع الحلوى، فكلَّفت  شخصين بحفر نفق يمتد من قصر أبيها إلى المتجر، لتتمكَّن من الذهاب من خلاله لرؤية الفتى، و هذا ما حدث.

و حين علِم الوزير بأمر النفق و الفتى و ابنته، أمر  بإحضاره إلى قصر الأمير  لمعاقبته، عندئذ وقعت عينا الأمير على الخاتم في اصبعه، فعرف أنه ابنه، ولكنه لا يستطيع أن يبوح بسره، و لكي ينقذ ابنه، أمر بأن يعاين أشخاص مختصون النفق، فإن كان محفوراً بدءاً من المتجر باتجاه قصر الوزير، يكن الشاب مذنباً، و يستحق العقاب، أما إن كان محفوراً بدءاً من القصر نحو المتجر، فسيكون هذا من تدبير ابنة الوزير، و دليلاً على أنها تحبه، و عندئذ يستحقان أن يتزوًّجا.

تم الكشف على النفق، فتبيَّن أنه محفور بدءاً من قصر الوزير. عندئذ عُقَد لـ " سَرْكان " على ابنة الوزير، و صارا يعيشان في قصر الأمير.

خرج سركان ذات يوم إلى الصيد، فالتقى فارساً ملثَّماً ألقى عليه السلام، فلم يردَّ سركان، فكرر الفارس مثنى و ثلاث، إلا أن سركان بقي صامتاً، عندئذ رماه الفارس بخنجر انغرز في فخذه، و قال له: أنا زهراء ابنة ملك مصر، و مضت في سبيلها. 

عاد سركان إلى القصر محموماً فاقداً القدرة على الكلام، فأرسل الأمير في طلب الأطباء لتشخيص مرضه و علاجه، ولكنهم عجزوا عن التشخيص.

تناه خبر مرض ژيندار  في قصر الأمير، و عجز الأطباء عن تشخيص مرضه إلى سمع أخيه سركان، فتنكَّر في هيئة طبيب، و ذهب إلى القصر، طالباً الكشف على المريض و معالجة مرضه. دخل  ژيندار  إلى غرفة أخيه المريض، فأدمعت عيناه من فرط فرحه برؤيته، ولكنَّ أخاه كان شبه مغمىً عليه، فلم يعرفه.

أخرج سركان الخنجر من فخذ أخية بهدوء، و تفحَّصه، ثم قال للأمير يبدو أن به مسٌّ من السحر  من قِبَل فتاة هي ابنة ملك مصر. فاستبشر الأمير خيراً بعد معرفته مرض ابنه، و تمنَّى أن يجد سركان المتنكر بزي طبيب دواء لدائه. و إن أبرأه من علته، فسوف يعطيه ما يشاء.

قرَّر ژيندار السفر إلى مصر بغية اللقاء بابنة الملك، و طلب من الأمير أن يجهِّز له أحمال مائة دابَّة من البضائع المختلفة، و عشرة رجال يرافقونه في رحلته، و يأذن له بأن يأخذ سركان معه.

بعد مسيرة أيام برَّاً و بحراً، وصل ژيندار و صحبه إلى مصر، و خيَّموا بالقرب من البحر، و عرضوا بضاعتهم للبيع بأسعار أقل مما هي في مصر، فأقبل الناس إلى شرائها، و كان هذا التدبير سبباً لأن يختلط ژيندار بالمصريين، ليسأل بعضهم عن إمكانية الوصول إلى ابنة الملك، فاختار امرأة عجوزاً، منحها عشر ليرات ذهبية، و أعطاها الخنجر، و طلب منها أن توصله إلى زهراء ابنة الملك. 

ذهبت العجوز إلى قصر الملك، و التقت زهراءَ، فأعطتها الخنجر. تناولت زهراء الخنجر من العجوز، ثم رمتها خارجا من النافذة إلى حديقة القصر.

مضت العجوز إلى ژيندار، و أعلمته بما حصل. ففَهِم من ذلك أن زهراء تريد اللقاء بژيندار في حديقة القصر، و لذلك طلب سركان من أخيه أن يذهب ليلاً إلى الحديقة، و أوصاه بألَّا يغفل، بل ينتظر ريثما تأتي زهراء.

بعض مضيِّ ما يزيد عن نصف الليل، لم يستطع ژيندار أن يصمد أمام شعوره بالنعاس، فأخذه النوم، جاءت زهراء، و رأته نائماً، فألقت عليه منديلاً، و عادت أدراجها. و أذ استفاق ژيندار من النوم عند اقتراب الصباح، رأى ذاك المنديل، فأخذه و عاد إلى خيمة أخيه، و أخبره بما حصل.

أرسل سركان العجوز مرة أخرى إلى القصر، بعد أن أعطاها المنديل، و عندما أعطت ابنةَ الملك المنديلَ، رمتها هذه المرة من نافذة المطبخ خارجاً، فوقعت العجوز بالقرب من إحدى أشجار البلح.

فَهِم سركان هذه الرسالة، فمضى بنفسه إلى حديقة القصر، و انتظر بجانب الشجرة. جاءت زهراء بعد مضيِّ منتصف الليل، و طلبت منه أن ترافقه إلى خيمة ژيندار.

حين اقتربا من الخيمة، و كان الظلام يخيم على الأرجاء، لمح ژيندار أحداً، فظن أن لصوصاً يريدون سرقتهم، فنادى الحُرَّاس قائلاً ثمة لصوص، فلحق بهم الحراس، و جرحوا أحدهم في فخذه. بعد أن سمع الملك بما حدث، أعلن عن جائزة مالية لمن يأتي إليه باللص المجروح.

بعد بضعة أيام كان زواج زهراء من أحد أبناء ملك آخر، فلمح الزوج الجرح، و تأكَّد له أن اللص المجروح هو زهراء نفسها، فلم يستحسن، و هو ابن ملك، أن تكون زوجته لصة، فربطها و وضعها في تابوت، و ألقى التابوت ليلاً في البحر.

كان  ژيندار يتتبَّع زهراء، فمضى إلى البحر، أخرج التابوت، و أخرج زهراء منه، ثم عاد الجميع، و زهراء معهم، إلى جزيرة بوتان. فرح الأمير بعودتهم و شفاء ابنه من مرضه، ثم أقاموا الأفراح بزواج زهراء و سركان.

أقام ژيندار في قصر الأمير، و ذات صباح أخرج خاتمه من اصبعه، ليغسل يديه، لمح الأمير اسمه على الخاتم، فأدرك أنه ابنه الآخر، و ناداه قائلاً له: ژيندار أنت ولدي.

عندئذ قصَّ له ژيندار عما حدث لهما، و إذا أراد الأمير أن يبقى الأخوان عنده، و أن  يناديه بالأب، اشترط عليه أن يُحضر أمهما إلى القصر، و يعتذر منها. و هذا ما حصل، فعاش الجميع معاً.

هذه الحكاية تنتقد حِيَل الأمراء و أصحاب السطة، و تثمِّن العلاقة الأخوية و الأسرية تثميناً عالياً. ولكنها في الوقت نفسه، تشكِّل، مع سابقتها، نموذجين جيدين للمثاقفة في الثقافة الشعبية الكردية، سنتحدّث عنها في دراسة أخرى.

الخصائص الفنية للحكاية الشعبية

من خلال ما مرَّ سابقاً يتبيَّن أن للحكاية الشعبية خصائصها التي تميِّزها عن غيرها من الفنون القولية، و قد تناثرت أكثر  خصائصها المعنوية في الصفحات السابقة، و لا بأس أن نجمل هنا الحديث عن خصائصها المعنوية و الفنية مثل القِدَم، و نعني به أنها ليست نتاج زمن  معروف، و المرونة التي نعني بها قابليتها للتطور حذفاً أو تعديلاً أو إضافة تبعاً للراوي و الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية من عصر إلى آخر. و في هذا يقول الدكتور عبد الحميد يونس حين يتحدث عن المأثورات الشعبية، بما فيها الحكاية: "  قاومت الزمن بما فيها من قدرة على الحياة و الاستمرار، و إنها تبعاً لذلك تتسم بالمرونة التي تجعلها قابلة للنمو، قادرة على التطور و الملاءمة بينها و بين الظروف الجديدة "( )، حتى لَيمكن القول إن جمعها و تسجيلها لم يغلق الباب أمام التغييرات التي يمكن أن تطرأ عليها زيادة أو نقصاناً، على الأقل بالنسبة للحكاية الشعبية الكردية، و ذلك بسبب سَعَة الانتشار الكردي و تقسيم كردستان بين دول أربع، و وجود أكثر من لهجة لغوية كردية، بحيث يمكن أن نجد هذا التغيير في حكاية واحدة تُروى في مناطق مختلفة.

 و من أهم خصائص الحكاية الشعبية أنها ليست إبداعاً فردياً، بل هي نتاج الخيال الشعبي، تعبر عن آمال الشعب  و آلامه و طموحاته، و الشفاهية هي وسيلة حفظها و انتقالها من جيل إلى جيل، و من عصر إلى عصر آخر ، و لا يُعرف لها موطن من حيث النشأة( ).  

لا تنتقل الحكاية الشعبية ضمن حيِّز جغرافي محدد، بل تتجاوز الحدود و القارات، بحيث لا تستطيع " الحواجز القومية أو الإثنية أو اللغوية أن تقف عائقا أمام انتقالها الجغرافي. و تصاحب عملية الانتقال سلسلة من الإضافات والتعديلات التي تطرأ على الشخصيات وخط أحداثها وبنية الحكاية الدرامية، لتحمل  أثر الثقافات التي تمر عبرها."( ) 

و من حيث شكلها، فهي تحافظ عليه مهما كانت طويلة أو قصيرة، و يمتاز  هذا الشكل برواية حدث ما. إن الحكاية الفولكلورية الكردية كغيرها تبدأ بداية قصيرة في جملة أو جملتين مثل ( ما كان و ما لم يكن ). و هي عبارة توحي بأن الحدث وقع زمن موغل في القِدَم، و تثير في المستمع الرغبة في متابعة الاستماع. إن الصيغة الكردية لهذه المقدمة تمتاز بوقْع موسيقي ناجم عن فاصلتيها المسجوعتين، و انتهائهما برويٍّ و احد (چةْ هَبوو، چةْ تنَبوو/ çi hebû, çi tune bû. )، و هي بداية تشبه بداية الحكاية الشعبية العربية في معناها و موسيقاها ( كان يا ما كان في سالف العصر و الزمان )، كما نجد هذا الاستهلال في الحكاية الشعبية الألمانية ) كان ذات مرة  / إسْ ڤار أيْنْ مالEs war ein mal /  ). و في  وسطها تدور الأحداث سرداً يتخلله الحوار أحياناً، و للسرد قيمته الفنية في الحكاية من ناحية الأداء اللفظي للفكرة، و الحدث أحد أهم عناصر القصة، به تتحدد  أهميتها و يتقرر نجاحها. و  هو مجموع الوقائع المتسلسة التي تدور حول أفكار الحكاية في إطار فني محكم، و غالباً ما يكون تصويراً للصراع الأزلي بين الخير و الحق و العدل من جهة، و الشر و الظلم من جهة أخرى، ثم العقدة أو الحبكة، حيث يصل الحدث إلى الذروة، ثم يأتي الحل، و غالباً ما يكون مفرحاً و مبعثاً للسعادة. و تأتي أخيراً الخاتمة قصيرة  تتمثل أيضاً في جملة أو جملتين، كأن تكون عبارة قصيرة من مثل ( ذاك أو أولئك نالوا مرادهم، عسى أن ينال المستمعون مرادهم أيضاً )، فتكون بذلك تأكيداً للنهاية السعيدة، التي تعكس الطموح الكردي  و البشري عامة نحو حياة سعيدة خالية من البؤس و الفقر و الشقاء و القتل و الدمار. و جمل البداية و النهاية هي نفسها تتكرر في أكثر الحكايات.

و هناك الشخصيات، و هي ليست كثيرة، و تنقسم إلى قسمين، منها الشخصيات الرئيسية، يستمر ذكرها في القصة، و أخرى ثانوية، تظهر مؤدية دوراً ما، ثم تختفي. و كثيراً ما  يحرص الراوي أو مدوِّن الحكاية على اختيار الشخصيات من البيئة المحيطة( )، بحيث تكون الشخصيات أقرب إلى الناس الذين نصادفهم في الحياة اليومية،  و هي هنا بيئة الريف الكردي الذي تكثر فيه الماشية و الحيوانات الأخرى، و حيث يعيش الأطفال بالقرب من الشخصيات الرئيسية.  و يلجأ أبطال الحكايات إلى الحيلة و الفطنة و الشطارة للخروج من المآزق التي أحاطت بهم.

أما البيئة الزمانية التي يُقصَد بها المرحلة أو المراحل التاريخية التي تدور فيها الأحداث، فغير محددة، إذ تبدأ الحكاية بداية غير مؤطرة بزمن معين، كما مرَّ سابقاً، و تبعاً لذلك تُروى الحكاية بصيغة الماضي، لأن الراوي لا يجد ضرورة لإقحام نفسه في هذه النصوص التي من المفترض أنها تجري في زمن هو غير زمن روايتها.

و يُحبَك نسيج الحكاية الشعبية الموجهة للأطفال بلغة سهلة و مبسطة، و تكون على مستوى وعيهم و إدراكهم، فتحافظ الحكاية بذلك على عنصر التشويق، و تجذب الأطفال إلى متابعة القراءة أو الاستماع.

و لعل الخيال و شكل السرد أو أسلوبه و الصياغة تشكل عناصر مشتركة بينها و بين الأسطورة.

 

([1])  Aziz Samur: Destana Zembîlfiroş û Gulxatûn, weşanên Nûbihar, çapa yekem Istanbul 2015,  rû 146-150

([2]) بعض الباحثين و جامعي أنواع أدب الفولكلور الكردي يعتبرون هذه الحكاية ملحمةً، ولكنني لا أراها كذلك، و ذلك لافتقارها إلى أغلب العناصر الفنية للملحمة.

([3]) Wesfî Hesen Ridênî: Beyta Zembîlfiroş. Weşanên Spîzer, ҫapa yekem, Hewlêr 2008, rû 11.

([4])  Heman jêder, rû 13.

([5])  Heman jêder, rû 11.

([6])    Aziz Samur: Heman jêder, rû 132, 133

([7])  Rukiye Özmen: çîrokên şevbihurkan, rû 71 – 79

([8])  مجلة الفنون الشعبية، وزارة الثقافة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف و النشر، السنة الثانية، العد 6. أيار 1968، ص 4.

 ([9])   ذهبت نظرية  الأخوين جريم، اللذين تُعتَبر أعمالهما في هذا الميدان في بدايات القرن التاسع عشر، أساساً لدراسة الخرافات و القصص الشعبية، ذهبت إلى أن الحكايات الخرافية ترجع إلى الأصل الهندوجرماني. بينما ذهب تيودور بنفي صاحب نظرية الانتشار، الذي تتبع الطريق الذي سلكته الحكاية الشعبية الهندية شرقاً وغرباً و في الآداب المختلفة، إلى أن الحكايات الشعبية نشأت في الهند، ثم انتشرت غرباً إلى أوروبا عن طريق الانتشار من خلال هجرات الناس. إلا أن الباحثين لم يتفقوا على رأي واحد. أما التشابه في موضوعات بعض القصص الشعبية في بيئات جغرافية مختلفة و متعددة، فإننا نميل إلى إعادة هذا التشابه إلى البنية الأساسية لتكوين العقل البشري، و إلى تشابه خبرات الشعوب و القضايا الاجتماعية و السياسية و الثقافية و غيرها التي تعالجها الحكاية الشعبية.

 ([10]) مصطفى نجار: الحكاية الشعبية، لماذا تبقى طويلاً. صحيفة "الشرق الأوسط"، 25 يناير 2015النسخة الإلكترونية.    https://aawsat.com/home/article/273471/   

([11])  د. بلقيس علي الدوسكي: أثر الحكاية الشعبية في المسرح الكردي، مجلة كلية التربية الأساسية، المجلد الرابع، العدد 100، أربيل 2018، ص 272.