Share |

دمعة حرى على رفيق نضالنا - قاسم محمد فهمي الكردي (أبو أزاد)

بقلم: د. محمد علي الصويركي وسوزان قاسم الكردي
المرحوم قاسم محمد فهمي الكردي (أبو أزاد)

 

      " وضع الشاعر في الجنة، فصرخ:آه يا وطني"

الشاعر ناظم حكمت

 

قاسم محمد فهمي الكردي، من مواليد مدينة عمان، تعلم ونشأ فيها، ثم يمم شطر ألمانيا للعمل هناك، وبعد فترة عاد إلى عمان ليستقر في محلٍ لبيع الملابس الجاهزة في شارع السلط بعمان، وبعد تدهور الوضع الاقتصادي للمحال التجارية اضطر صاحبنا إلى تحويل محله التجاري إلى مطعم، وبعد برهة تركه وعمل لدى أسواق (مكة مول)، وظل يعمل هناك حتى توفاه الله بمرض سرطان الرئة يوم الأحد من شهر آذار الماضي 2012م.

      ينحدر قاسم الكردي من أكراد (مدينة وان) في كردستان الشمالية التي هاجر منها أجداده إلى دمشق، وعند تأسيس الأردن الحديث 1921م جاء والده إلى عمان ليعمل في الجيش، ثم تركه ليعمل في القطاع الخاص، و اختاره أكراد عمان عمدة لهم، وكان له دور كبير في خدمة أبناء جلدته الكرد، وقد تأثر قاسم الكردي بوالده مما زاد في تعلقه بكرديته، لذا لا نستغرب عندما تحول محله التجاري مقرا لكل وارد ومغادر إلى عمان من أكراد سوريا والعراق وفلسطين وتركيا والأردن.

        أما معرفته به فتعود إلى عام 1987 عندما عزمت على وضع كتاب عن أكراد الأردن يُعرف بهم ويرصد منجزاتهم، وكابدت في انجازه المشاق الكبيرة، وصدر لاحقا باسم:" ألأكراد الأردنيون"، ونشر مرة ثانية في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق، ومرة ثالثة مترجماً إلى اللغة التركية في اسطنبول، وبالفعل رتب لي لقاءات عديدة مع أكراد عمان وجمعية صلاح الدين الأيوبي، وكان بحق البوابة التي عرفتني بهم..... واستمرت العلاقة.... وفي كل مرة كنت انزل العاصمة عمان أعرج عليه واستمع منه أخبار ونشاطات الأكراد، ويعرفني أيضا على زواره الأكراد القادمين من سوريا والعراق... وكنت أسائله عن بعض القضايا الكردية الساخنة فكان يقدم لي الجواب الموجز والمقنع، كما أرشدني إلى مكتبات عمان التي تعنى ببيع الكتب الكردية، ولم يبخل علي بإعارتي كتباً من مكتبته الخاصة التي كان لها دورا كبيرا في توسيع ثقافتي وعونا لي في كتابة مؤلفاتي عن الأكراد فيما بعد، ولا زلت أذكر له ذلك الجميل يوم  رتب لي لقاءً تاريخياً في محله التجاري جمعني بالمؤرخ الكردي الكبير علي سيدو الكردي عام 1987م.

       مع مرور الأيام توثقت علاقتي به، فكان نعم الصديق، يسدي اليَّ الملاحظات والتوجيهات... أتذكر منها قوله لي ذات مرة:"أخاف عليك من الإحباط والفشل... أخاف عليك من الذين تكتب وتنافح عنهم...". لقد صدقت توقعاته.. وواجهت حفنة من صغار النفوس كانوا ينتقدوني بدافع الحسد والغل، فعرفت مدى ضحالة ثقافتهم، وتفاهة نقدهم، وخلوهم من الحس القومي الكردي، لكن العزيمة والصبر وإيماني بعملي جعلتني لا انتبه لتلك الصيحات الحاقدة، وبعون الله غدا اسمي يردده عشرات الأكراد في كردستان، وصارت مؤلفاتي منتشرة في كل مكان.. حتى صنفني  المؤلف الكردي العراقي (نزار بابان) في كتابه"كردستان: جنة الله وجحيم أمة" في المرتبة السادسة من بين مؤرخي الكرد الذين يعتز بهم الشعب الكردي لأنني كتبت تاريخهم بكل صدق وأظهرت رجالات وتاريخ هذا الشعب العريق. وهنا لا بد من القول: بأن نجاحي في مشواري الكتابي يعود الفضل في بعضه إلى صديقنا المرحوم قاسم الكردي.

    كان المرحوم رساما وفنانا، قام بعمل الرسومات لكتب الأطفال التي كان يؤلفها الأديب الكردي محمد أمين بوز أرسلان ويرسلها له من السويد، ويجيد اللغة الكردية، ومنافحا قويا عن القضية الكردية بكل صدق وإيمان وعفوية، إذ قدم لها جهده وماله ووقته، وغدا محله التجاري قبلة لكافة الأكراد القادمين من فلسطين والعراق وسوريا وتركيا..يلتقون ويتعارفون ويتناولون قضيتهم الكردية بالسؤال والشرح... فكان محله بكل حق ملتقى أدبياً وثقافياً وعلى حساب عمله التجاري....

      لقد ترجل الفارس، وغاب عنا (أبو أزاد) بجسده، بعد أن نال سرطان الرئة من جسده ما نال، وقد كلمني عن مرضه العضال بالهاتف، وكنت أود زيارته، لكن غيابي عن الوطن من أجل زغب القطا حال دون رؤيته...لقد رحل دون أن يرى (كردستان) دولة حرة مستقلة، تلك التي كانت من أجمل أمانيه في الحياة، ولطلما ردد مقولة الفيلسوف اليوناني اربيديس :" أروني وطني قبل أن أفقد بصري إلى الأبد!!".

      لكنه أوصى الأجيال القادمة من شباب الكرد إذا ما قامت دولة كردستان الحرة أن تقف على قبره وتبشره بتحقق ذلك الحلم..... أما أفكاره وأعماله ومآثره الكبيرة فستبقى يذكرها أصدقاؤه ومحبوه، نترحم عليك أيها الصديق، ونسأل الله لك الفردوس الأعلى، وحسن العزاء لأسرتك ولإخوانك، ولكل من أحبك وعرفك...وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر!!!!!!!!!!!!

ماذا كتبت ابنته سوزان:

      لقد دونت فلذة كبدة (سوزان) كلمة رثاء بحقه، وهي كلمات صافية وعذبة نابعة من فؤاد  صادق مفعم بالحب، فأشادت بخصاله الكثيرة، وغدا الأب القوي يفقد قواه ويضعف شيئا فشيئا أمام زوجته وأولاده، فعانوا معه رحلة العذاب، وشاهدوا كيف خارت قواه، وهزل جسده، والخلايا السرطانية تنهش جسده ولا يقف في وجها إلا جرعات الكيماوي فثبطيها ساعة ثم تعاود نهش جسده حتى لفظ أنفاسه بين أيدي أحبته، وهنا أجادت (سوزان) في تسجيل لحظات احتضار والدها، فبكته بدموع حرى، ورثته بالعبرات بدل الكلمات، أنه لحن الحياة والموت الدائم على الأرض، في كلمات سوزان نجد الحب الصادق، والكلمات البريئة، فدعونا نقرأ ما خطت يداها عن ذلك النسر الراحل:

     "عاش في يوم من الأيام رجل...ليس كأي رجل، ،كان في صغره: هادئاً، مسالماً، ومفكراً.وفي شبابه: فناناً، حالماً، ومبدعاً،  وفي كبره: متواضعاً، بسيطاً، حكيماً، لم يطلب جاهاً ولا منصباً،  لم يفرض احترامه على من حوله بالقوة، بل كسبه بالرقة والحكمة،لم يسعَ وراء إعجاب الناس وحبهم، لكنه مع ذلك ملك قلوبهم،  تأثيره في حياة من حوله كان كضربات فرشاته حين يرسم على القماش الأبيض، فتترك آثاراَ جميلة على شخصياتهم.لم يؤذِ في حياته شخصاً متعمداً، بل كان يطيب مشاعر المتألمين، ويؤلف بين قلوب المختلفين، ويجمع بينهم،كان إذا أحب أخلص، وإذا كره تجاوز، وإذا ظُلم عفا وسامح،أحب أهله وأحبوه، فحضن أولاده بكل حب، وبدون حزم، وزرع مع زوجته الحنون فيهم الطيبة، وحسن الظن بالناس، وحب الأهل، وخصال تلمسُها في تعاملك معهم.

      كان قوي الجسد نشيط الحركة، لا يمل من العمل أبداً حتى......تسلل في يوم من الأيام إلى جسده شرٌ خفي لم يشعر به إلا وقد امتد إلى صدره، وتمكن من أنفاسه.  في لحظة، انقلب عالمه من ذروة العطاء والاستقرار والسعادة إلى أشد الضعف والخوف والقلق والحزن.. التفَ أهله كلهم حوله، فحضونه برفق، كما حضنهم من قبل، اهتز عالم هذه الأسرة الطيبة وضربها الخوف بشدة، لكن هدوئه وصبره وتماسكه هدى من روعها وطمأنها.

 حمد الله دائماً، وحاول أن يظل قوياً من أجل أولاده وزوجته التي أحبته من أول لقاء، وظلت إلى جواره في كل لحظة تدعو له وتسهر على راحته، لم ينفعْ مع مرضه العلاجَ رغم صعوبته وقسوته، ومرتْ عشرة شهور صعبة وأليمة ذرف فيها أحبته دموع الخوف من الفراق عندما أيقنوا أنه ليس هناك مفر من النهاية.

 وجاءت لحظة النهاية: وقف أحبته حول سريره يغصون بالدموع وهم يراقبون بحسرة الحياة وهي تذوي من جسده الضعيف الذي أصبح نحيلاً شاحباً، يدعون الله ويرجونه الصبر والثبات.الحزن.فيقة دربه، وأحاط به أبنائه وإخوته وأحبائه. ظلوا يصلون ويراقبون أنفاسه وهي تضعف وتخفت حتى توقفت مع دقات قلبه.

     الحزن ....ليست هي الكلمة الدقيقة التي تصف المشاعر في هذه اللحظة، إنما الشعور الحقيقي الممزوج من الصدمة والاشتياق والخوف من الآتي، والرجاء من الله أن تكون روحه النقية قد أصبحت في مكان أفضل بعدما تركت هذه الأرض..

    في الختام أقول: أن والدي الذي كان منقذي وملجئي الآمن، كان رجلاً اجتمعت حوله قلوب الناس؛ لأنه كان ببساطته إنساناً مميزاً، وسوف أبقى افتخر به لأنه تركَ لنا إرثا مميزا. تركَ داخل نفوسنا خصالاً من خصاله،  سنفتقدك يا أبتاه، لكننا سنراك دائماً عندما نصفواإلى أنفسنا فنحن في النهاية قطعٌ منك......!!!!!!!!!!!!.