Share |

شِعرنة الحركة (برزخ جنكيمان)… ريبر يوسف

الفنانة التشكيلية جنكيمان في معرضها

كان دوّار الشمس يرتّل في وجوهنا الحمراء أسرار الأبدية، في اللحظة التي كانت العجوز فيها تنفضُ عن جبهتها ما يسرُّهُ ماءُ البئر (الارتوازية) لجسد حقولنا البكماء، العجوز واضعةٌ راحةَ يدها اليمنى أعلى رأسها، على هيئة قبّعة، فيما تنقّي - من غبار مستنهض - تفاصيلَ أشخاص قادمين على درب ترابية ومغروسة في قلب القرية.

صور سينمائية موسومة بالطمأنينة عبرتْ ذهني، إذ حطت خطوتي الأولى في مبنىFrauenmuseum، في مدينة بون الألمانية، المكان يظّاهر كما لو قفز من بركة نابضة هناك، حيث مسقط الرأس صوب القاعة المقسمة إلى أربعة أقسام أسّرتنا فيها التشكيليةُ الكرديةُ جنكيمان عبر الأزمنة المتعددة التي نسجت بدورها وبِنَوْل الخسارة سجادةً؛ استلقت عليها أذهاننا المنتفضة بالذاكرة وحسب. ما من قلق خارج القاعة هذه، ما من سلام خارجها، تتالت العبارة تلك في نفسي آنذاك، للوهلة الأولى يخال للمرء كأنه واضعٌ يدَهُ في يد القلق والسلام معاً؛ في القاعة الخصبة مثل تراب مسقط الرأس.

القاعة في متحف ضخم، القاعة المقسمة إلى أجساد أربعة تتشرب من قلب واحد. لم تهدأ الأمكنة المتعددة في ماء عيوننا المفتوحة على قسم الطفولة في القاعة /الشجرة. الأمكنة التي وخزت ذاكرة التشكيلية التي عملت بإتقان على إخراج الحالة الجمالية لقسم الطفولة ذاك، تكاد تسأل نفسك "تُرى هل كانت ثمة حياة أخرى لـ جنكيمان سوى الرسم إذ كانت طفلة؟". البهاء المطلق، كامناً في الدهشة الأولى، جعل من عيوننا حيواناتٍ أليفةً، تتقافز في حركة الأطفال صوب اللوحات التي رسمتها جنكيمان فترةَ الطفولة التي لازمتها حتى اللحظة. اللوحات المرايا التي تلازم الكائن طيلة البقاء في القسم ذاك حتى تحولت إلى أشرطة سينمائية في عمليتين متلازمتين لبعضهما البعض؛ الأولى هي في عملية الإخراج والعرض حيث بدت منشورة على حبال تشبه حبال الغسيل في مسقط الرأس، موثَقةٌ تلك اللوحاتُ إلى الحبال عبر أعواد الغسيل، والثانية هي العملية المرآة الملازمة للكائن إذ يسير إلى جانب الحبل المنشور عليه أزمنة جنكيمان. يخال للمرء كأنه يرتّل ذاته عبر الحالات والأزمنة المطبوعة على جبين اللوحات تلك. وأنت، في لحظة مرورك، تشاهد نفسك وكأن التشكيلية جنكيمان خلقت بيوغرافي لطفولة المتلقي عموماً. كل هذا يعبر مثل جسد ومضة ذاكرتنا المفتوحة حتى النهاية إثر الشريط السينمائي في الحالة البصرية المقترنة باخراج اللوحات، والبيوغرافي الذي دوَّن في عقلنا جميع الحركات والهواجس التي ترافق الطفل إلى أزمنته الأخرى.

كل هذا، إلى جانب الأشرطة السينمائية المتتالية عبر الأعمال تلك، حيث كل لوحة موثَقةٌ إلى تاريخ ما ـ يحفّز الطفل على البقاء في بالونة الأمل الكبيرة ـ نكاد نقرأ سيرة الطفلة جنكيمان عبر العين المتألقة المفتوحة على تنّور حكاياتها، حتى نصل إلى مشارف سؤال هاجس آخر ألا وهو "كيف لطفلة أن تعيش جماليات أو لحظات لأزمنة متعددة في فترة الطفولة وحسب؟" سيما أنها بدت طفلة ساكنة ومسكونة بالحكمة والأسئلة الوجودية عبر حالات وأزمنة في أعمالها.

جنكيمان، هناك أو هنا، تجلس خلف المدفأة أو في ركن ما مجهول، ترتّل سيرة الكائن عبر لون طفولتها. (الحب، السياسة، القلق، الفكر المقترن بالوجود، الحكمة، الجمال، سيرة الأمكنة) كلها عناصر بدت واضحة تماماً في لوحات زمنها/ الطفلِ. تُرى، كم من الأزمنة عاشتها التشكيلية جنكيمان في زمن طفولتها؟ قوة يدها آنذاك، عبر الخطوط الجريئة على جسد الأوراق، بدت في مشاريع قدمتها جنكيمان في القاعة إلى جانب التشكيل والغرافيك، قوة الخطوط تدحرجت لوهلة على طين وضعتهُ الفنانة على أرض قسم الطفولة في طابق لمتحف ضخم، طين تيبّس في اللحظة التي بدت خطوات طفلة عليها وفردة حذائها ولوحة ما ـ كانت قد سقطت من جعبتها الممتلئة بالفراشات في طريقها إلى البيت ـ لم تكن تلك العناصر قد يبست بعدُ كأنها متدفقة في ماء عيوننا المتدفق بدوره على الطين الذي شاخ تحت كاهل طفولة شائخة، كتبت جنكيمان على ذلك الطين باللغة الألمانية" ich gehe nach Hause" أي: "أذهب إلى البيت". ذهبت الطفلة إلى البيت آنذاك، ومكثت في ذاكرة البيت حتى اللحظة. فيما لوح مدرسي أخضر معلق عليه لوحات طفولتها. على اللوح المدرسي الأخضر كتبت جنكيمان باللغة الكردية اسم الفراشة وعبارة"Mala min" أي "بيتي" بيت الطفولة التي لم تهدأ في أجنحة جنكيمان التي فتّقت ورودَ ذلك البيت عبر ريشتها وقلمَي الرصاص والفحم. سمعتُ جنكيمان، آنذاك، تقول للصحافة الألمانية التي قامت بتغطية المعرض أو (بيوغرافي جنكيمان). سمعتها آنذاك مفسّرةً دواعي كتابتها على تلك اللوحة باللغة الكردية " لم نتعلم باللغة هذه في سوريا، لغتنا الأم، لم تكن لذاكرتي أن تغيب في ملامح الحياة دون أن أحقق تلك الرغبة التي لازمتني لحظة الطفولة وهي الكتابة على لوح التعليم بلغتي الأم". ظلت جنكيمان متحدثة فيما سرتُ نحو صفرة (سفرة) موضوع عليها كأس شاي، لمستُ الكأس تلك؛ كانت لا تزال ساخنة. الكأس الوحيدة على سفرة مركونة في زاوية المعرض كانت عملاً إضافياً في سلسلة أعمالها التي بدت جسراً ينقل الكائن من جسده صوب روحه، كانت الكأس تلك لوالد جنكيمان (درويش ملا سليمان) كما حدّثتني، " بقيتْ كأس الشاي لوالدي على السفرة طيلة طفولتي، بقيت على سفرة ذاكرتي المتفرعة مثل دالية، لم نشهد والدنا معنا على المائدة إثر هروبه المستمر من ملاحقات النظام السوري آنذاك له". شاهدتها تتحدث عن الحقبة تلك من زمنها فيما كانت عيناها تتقافزان مثل حيوانين أليفين صوب القسم الثاني المخصص للمناضل والسياسي (درويش ملا سليمان).. حيث كان اللوح الأخضر فاصلاً ما بين ركن الطفولة في القاعة والركن المخصص لوالدها. سعت التشكيلية جنكيمان إلى ترتيل أشرطة سينمائية متعددة، في ذهن المتلقي ، أشرطة أخرى عبر سيرة العين. مرة أخرى تحصدنا الحكمة على سهولنا الشقية في الأسى. الوالد الذي هتف في روح التشكيلية جنكيمان عبر الحكمة التي تركها كأبٍ مختلف لطفلة مختلفة. قدّمتْ سيرة ذلك الأب عبر صور له تجسد كمثيلتها من الأشرطة السينمائية في القاعة عموماً. الأب الذي كان من مؤسسي أول حزب كردي في سوريا. حاولت جنكيمان، وعبر عناصر متعددة، أن تدفّق اللغة من العين؛ إذ رسمت سجناً على الجدار مقفول بابه بسلاسل حديدية، فيما وضعت مفتاح ذلك القفل على الأرض وعلى مبعدة خطوة من الباب المقفول بشراسة نظام بتّر الأمل في سلاسل الكردي المصنوعة من لغته، وكأنها حينما وضعت المفتاح على الأرض تقول لك افتحْ هذا القفل.. حرّرْ مَن هو خللَ الجدار.. حرّرِ الجدار وارحلْ به بعيداً صوب سهل شاسع وأطلقْهُ في وجه الريح مثل قبلة. كأنها تسرد سيرة نظام عبر كتابات كانت قد كتبتها التشكيلية على الجدار ذاك. كتابات وشعارات لحزب البعث محاولةً وسمَ تلك الشعارات بمفضاها الكامن في العتمة القاحلة. ببداهة ملفتة مهذبة استفادت جنكيمان من باب عادي داخل القاعة إذ كتبت على ورقة "مكتب مدير السجن" وألصقت قصاصة الورق تلك على ذلك الباب. هكذا استفادت جنكيمان مما هو موجود في القاعة سلفاً لتسخّره فنياً في خدمة الهدف الذي أرشدتنا إليه عبر روحها الفنية. لم يكن الجدار ذاك وحده يمثّل (الفلاش باك) في سلسلة أعمالها؛ سيما وأننا شاهدنا إلى جانب الجدار ذاك سلّماً خشبياً مستنداً إلى جدار آخر فيما كان شالٌ على هيئة جعبة تخبئ خللها ثياباً. الجعبة معلقة كانت على ذلك السلّم، ربما يكون هذا سرداً آخر رتّلت التشكيلية عبره سيرة مقترنة بالقلق المرافق للأسرة آنذاك. في حديث جنكيمان مع مجموعة من الصحفيين والحضور آنذاك سردت لهم" كان والدي مسكوناً بالقلق المطلق علينا وعلى حريته التي سخرها في خدمة قضية شعبه، أبي حافظ على حريته ليس تهرّباً من عتمة السجون، التي عاش في كثير منها في سورياً إلى سجن قصر النهاية بالعراق السجن الذي خرج منه بأعجوبة خارقة وذلك بفضل البرزاني  وإنما لإدراكه ومعرفته بروحه المواظبة على النضال في خدمة قضية شعب مفتوح ككتاب في وجه الريح. كان السلم الخشبي متأهباً، أبداً، إذ كان يهرب من بطش النظام السوري عبر أسطح المباني، كانت جعبة أبي مستيقظة مثل عينه؛ لا تنام في الساعات أو الأيام القليلة التي كان يقضيها فيها بيننا قبل أن تعلم مخابرات النظام بوجوده في البيت، ليواصل مرة أخرى رحلته في أماكن أخرى، مزخرفاً بخطواته ما يشبه سيرته الجميلة".

شاهدت أنفاسي متصاعدةً عتباتِ ذلك السلم الخشبي. الأنفاس المختلطة باللون وسلسلة صور على الجدار بجانب السلم. وفي فيلم قصير وُثِّقَت عبره سيرة الوالد (درويش ملا سليمان) في صور. تلك المجموعة الهائلة من الصور الوافدة كل منها من ريح زمانها الشاق. جسدت الصور تلك سيرة ذلك المناضل في حالات وثّقت مراحل حياته المكتظة بالأسى، صور رسمت لنا خارطة نضاله وأهميته كحالة تسرد معادلة معقدة في نفس الكردي، كان جالساً برفقة أصدقاء في صور وفي أخرى ظاهراً إلى جانب شخصيات ذوات قيم وجودية وأخلاقية للكردي؛ مثل صورته تلك مع الملا مصطفى البارزاني على أحد الجبال في كردستان العراق. لم تكن علاقته مع البارزاني مجرد ذاكرة في صورة؛ ففي حديث لزوجة (درويش ملا سليمان) عن إحدى الصور، إذ سردت بماء عينها، تحدثت لي عن أسر الملا البارزاني لعدد كبير من الضباط العراقيين آنذاك في سبيل إطلاق سراح مجموعة من المناضلين والقادة الكرد في سجن قصر النهاية بالعراق، عددهم 8 ومن بينهم (درويش ملا سليمان). تحدثت الأم فيما سرب على هيئة كلمات عبرت ذاكرتي قادمة من ذاكرتها. كانت يد الماء متسللة حيث الأمكنة خارج توصيفاتها، خارج أزمنتها الهلامية. مجرد الوقوف إلى جانب المرأة تلك تنتابك رغبة في إطلاق جناحيك الهائلين - الجناحين في روحك المركونة خلل سجن جسدك.

صور تطبع في عقولنا جرأة كي نحدق بها في عين الزمن مباشرة. حيث كتب على إحدى الصور التي تشعُّ منها ابتسامته الساطعة "هكذا نضحك للغدر". هنا، حيث فراسة ما ممتطية ظهر فرس تصهل في أنفسنا. أيّ غدر يزحف بجيشه صوب تلك الابتسامة البريئة؟ الابتسامة التي تدفعنا بالخجل من أعمارنا في حضرة رجل ابتسم للغدر في ألمانيا إذ اغتيل على يد نازي كان قد خرج من السجن لتوّه - ذلك النازي، الذي أقسم أن يقتل أول أجنبي يصادفه بعد خروجه من السجن. في أحد شوارع مدينة أوريش الألمانية ابتسم (درويش ملا سليمان) للغدر. ابتسم عبر روحه إذ همّ النازي ذاك والذي صادفه بمطرقة على رأسه بتاريخ  1/3/2002 في ذكرى رحيل صديقه البارزاني ليمكث في غرفة العناية المشددة إلى أن يفارق الحياة في  16/3/2002 في ذكرى مجزرة حلبجة. ترى، أي جهة تفتح نوافذها للأسى؟ أي سرد ترتله الريح في سيرة مناضل لجأ إلى دولة ألمانيا الاتحادية إثر بطش النازية في سوريا ليُقتل على يد نازي ألماني لا يربطه بالنازية في سوريا سوى (سايكس - بيكو) ربما أو درب الكردي القاحلة الممتدة من قريته الأمية في الشر إلى الشر في الأمم المتحدة.

وثّقت التشكيلية جنكيمان عبر معرضها أو (بيوغرافي جنكيمان) سيرة والدها عبر عناصر متعددة ذات سياق معرفي معلوم. في القسم ذاته - ركنِ الوالد، إن صح التعبير، قدّمت التشكيلية مشروعاً آخر كان في مثابة صراخ شاهق يستنهض به الجنينُ قامتَهُ القصيرة مقارنة بالمدى، إذ علّقتْ إلى سقف القاعة سيرومَين ممتلئين حبراً أسودَ، عبر نقاط على لوحتين أو (شاسيه) للوحتين موضوعتين كانتا على الأرض مثل جسدين يسدل عليهما الزمنُ سبابته العظيمة. في حركة فريدة من نوعها بل وربما تخصها عالمياً ـ حسب معرفتي ـ حاولت توثيق الرابط ما بين الروح في لغزها والجسد في مادته؛ حيث رقّمَت الزمن عبر نقاط سوداء تمثل الدم أو النعمة البيضاء على هيئتها عموماً، بدأت النقاط في الهبوط على جسد اللوحات الممددة على الأرض لحظة الافتتاحية لتكون بذلك حقلاً إضافياً تسرده التشكيلية لخطواتنا المعلقة في سقف أذهاننا. في اللحظة التي تنمو الحركة في القاعة تولد الحركة في الحبر المنقّط على هاتين اللوحتين. ثمة عنصر غائب تماماً وحاضر في التفسير إثر هذا المشروع؛ تُرى، أين هي اليد التي سال السيروم خلالها مفتشاً في الجسد عن سرٍّ ما؟ اليد غائبة أو ربما قد تكون اليد هي التي تتجول في القاعة - يد جنكيمان؛ خرجت إبرة السيروم من يدها لتحوّل جسدها في لحظة إلى لوحة تسير بخفة فراشةٍ. ما من فعل في هذا المشروع، ما من ضربات ريشة بشرية. السيروم يرسم من تلقاء نفسه، لكن جنكيمان تعيد إثر ذلك العمل بالعين إلى قماط الطبيعة حيث الجمال المطلق.

ما بين ركن الوالد في القاعة وركن الغرافيك قامت التشكيلية ببناء سياج حدودي من أسلاك شائكة، مؤسسةً بذلك صياغةً جادة في نقل العامل البصري من اللون - كحالة متعارف عليها - إلى ذاكرة العين كعملية بناء الحلم عبر المادة تماماً. حلكةٌ أخرى تواظب على تلقين نفسها بالطاعة التي يرتلها النور لها. هكذا، لوهلة، أدركتُ النية البيضاء لديها إذ هدَمَت في جدار المتلقي الرغبة في العبور إلى الطرف الآخر - ركن الغرافيك، ساعيةً بذلك إلى إيجاد الرابط ما بين الفن كوطن مقسّم وما بين سدرة والدها الشاقة. شال كردية متروكة كانت على السياج المانع ذاك، ثمة من عبر السياج إلى الجهة الأخرى. ترى، أية جهة كوَت سكينة الهارب هناك؟ الهارب من قلبه إلى كبدهِ، سيما وضعت لافتات على الأرض مقابلة لمجسَّم الحدود، مكتوب عليها كلمة (قف) باللغات (العربية، التركية والفارسية)، اللغات الدالة على الدول التي تقاسمت كردستان فيما بينها. (قف) الكلمة التي أرواحنا مسكونة فيها حدَّ الهلع.

عبرنا الجهة الأخرى حيث ركن (الغرافيك) موسوماً كان بأعمال متنوعة، أكثرها إثارة وذكاءً صياغتها للفن عبر صناعة بحتة، إذ عالجت (علب التمر الخشبية) إلى أن رققتها على هيئة أوراق معتقة في (عملية فنية تخصها عالمياً) مدوِّنة عليها (سرد بصري لا لغوي). مجموعة من البورتريهات وسياقات ذات طابع أسطوري من جهة وشعري من جهة أخرى. استدرجت التشكيلية عبر هذه الأعمال العين من كونها حاسةً إلى صيرورتها ككائن ممزوج بالمعرفة.

الفراسة أو إعادة الصياغة جُلُّ ما ينتاب المرء إذ يسكن تلك الأعمال، لوهلة تشعر بأن التشكيلية تصيخ السمع إلى العناصر الموجودة برمتها، مسخِّرةً إياها في عملية صناعة حالة بصرية عبر الغرافيك. مساحات مهدمة تتوالد، مساحات تلو أخرى لدرجة أنك تشعر بفرسين تتجولان في رأسك بدلاً من العيون؛ ما يشبه الحلم، مستفيدةً بذلك من الإحساس الذي تتركه عملية صناعة الكائن/ اللوحة من التخطيط إلى صبّها عبر ماكينة تنفذ طاقة المرء في بنيتها، سيما وأن هذا العمل مقتصر على الرجال عموماً لحاجته إلى بنية ما، قد يكون شاقاً لامرأة البحثُ في اللوحة عبر عملية الحفر والصب.

هنا حيث التشويه مرة أخرى، التشويه بمعول الجمال الذي يسدل على العناصر في الأعمال تلك بياضاً مريضاً، التشويه ومن ثم إعادة الصياغة عبر نقيضه.

الركن ـ الجسد الرابع التشكيل، ليس في مقدور المرء قراءة النتيجة هنا حيث الجسد الرابع المرمي في حضرة اللون كمعادلة دونما التبصير في الحدث/ الخطوة الأولى لدراسة الطفلة المتوجسة بالعين، الطفلة التي ارتمت كما غصن في هلع الريح. هناك حيث مجموعة من الأعمال التشكيلية بأحجام مختلفة عكست إلى حد ما الترف النفسي للفنانة من جهة والألم من جهة أخرى، إثر صياغة أربعة مشاريع على الأقل عبر سلسلة من اللوحات، حيث في مجموعة مكونة من ثمان لوحات تقريباً أجهدت العين مرة أخرى ـ العين كذاكرة الألم ـ إذ أبدت رغبتها في رسم نفس الحركة لا شكلها، الأمر الذي يترك فينا الرغبة في إكمال تلك الحركة الملغومة بالعاطفة وجرّها إلى ذواتنا، للحدّ الذي تبدو فيه  لنفسك عنصراً تتنفس خارج اللوحة لحظةَ مشاهدتك لها. النوم إثر حدث ما ربما مقترن بعوامل لا متناهية دالة على أبعاد أخرى اختلقها الشكل، الحركة التي تمسك بحركتك أحياناً حتى تبدو لنفسك منصبّاً على عملية العجز للقيام بفعل التنفس ذاك الذي شغلك، قبيل لحظات، أمام العنصر ذاته في اللوحة ذاتها، مجموعات متناثرة لأطفال متناثرين في ضربات ريشة إثر خطب ما؛ قد يكون الصراع ما بين طاقة الريشة والموسيقا المصاحبة لها أو قد يكون النزاع في شخص الفنانة ما بين روحها وروح الآخر. الريشة تتحول إلى أم تنوّمُ الأطفال في مرحلة ما داخل لوحة ومن ثم توقظهم في فزع داخل عتمة مهجورة في مرحلة أخرى؛ هكذا تخلق جنكيمان أبعاداً إضافية لعملية التشكيل داخل اللوحة، لوهلة تنتابك رغبة في لمس البورتريهات لأطفال شوّههم الجمال. الحركة الحركة في سياقها النفسي تتوارد إليك كحالة بديلة لحدث مضى وحسب. أطفال ووجوه تنظر في عينك مباشرة وفي ذلك ثقافة بصرية تتقنها الفنانة التي تزرع العناصر/ البورتريهات في الزمن الحاضر للحدّ الذي تبدو فيه  لنفسك غنيمتك. انظرْ، حرّكْ، افعلْ شيئاً ما، كلها سلسلة تتوجس بها إذ تركن في الزمن الحاضر للعين الدائمة الانفتاح على عينك. في عملية مزج ما بين التعبير والتجريد انتقلت التشكيلية جنكيمان إلى بناء الحركة تلك من جهة والتشويه الوسيم من جهة أخرى تماماً كالفلاتر في المونتاج السينمائي.

المجموعة الثانية حيث عملت عليها الفنانة في سياق مختلف تماماً عن مشروعها الأول. المجموعة -  الامتداد لعناصر الغرافيك - ولكن عبر الرسم البحت أو عبر التعريف المتعارف عليه للوحة التشكيلية، إذ كرّست العين مرة أخرى في سبيل إيجاد دلالات متتالية فيما تشبه الأسطورة أو شِعرنة القصة، إن صح التعبير، في محاولة منها تحويل اللون إلى لغة تدفعك إلى القراءة عبر الرموز لا الحروف. عناصر متعددة تسوس قطيع ذاكرتك إلى شكل التراث الكردي - الشكل الذي أخذ طابع الترميز القصدي إثر عوامل جوهرية أثرت في الكردي داخل عملية الصياغة. تكاد تكون هذه المجموعة خارجة من صلب التربة التي سارت عليها التشكيلية إلى بيت طفولتها. الخصوصية في مشروعها هذا تكمن في اختيارها للزاوية التي تستسقي منها طعنات ريشتها لا بسياق الشكل.

هكذا وعبر مجموعة أخرى تستدل اللون فينا لتعيد بالعين إلى السؤال الجوهر عموماً "ترى كم لوناً يتلمسه الضرير؟" في عملية ما تشبه خروج الريشة في منتصف الليل إلى درب مليئة بدوار الشمس، الريشة التي تنتابها الشعور بكسل ما أو بلغز يجهدها في تفسير أسئلة وجودية، عبر اللونين الأبيض والأسود تمهّد في حركات غير واعية، حركات خارجة على عملية القصدية في السير مع الريشة حتى نهاية الدرب اللامرئية على اللوحة، تمهّد لبناء الحركة عبر زاوية أخرى غير تلك التي اشتغلت عليها في المجموعة الأولى ـ حسب تسلسلي الشخصي للمجموعات ـ مجموعات متنازعة فيما بينها على الحدث الذي يدور في ذهن الريشة، مجموعات من خطوط تقسّم فيما بينها نعمة اللون بميزان موضوع في اللاوعي. الخطوط تلك تظّاهر كأنها أجساد آدمية كامنة خارج الشكل المفضي إلى البنية العامة للجسد عموماً.

سعت التشكيلية إلى بناء المعادلة المفضية إلى نتيجة يدركها المتمعّن في حالة التفسير في ماهية الروح والجسد، تارة يسير خط ما في سرداب الجسد ليكون اللون النقيض سكوناً له أو حركة مبطنة شبيهة بلغز الروح، إلى أن يتحول الخط نفسه إلى لغز، فيما تظهر ذاكرة شكله على هيئة جسد. الروح والجسد يسيران إلى جانب بعضهما البعض في عملية حياتية بحتة وكأن الخطوط/ الأجساد في أبدية.

بيوغرافي جنكيمان الحقل الذي يرسل إلى نفس الكائن سرَّ الكائن، الحقل الوافد من ذاكرة تكمن في عناصر لا متناهية إلى الحد الذي تتهيأ فيه لرفع راحة يدك أعلى جبهتك على هيئة قبعة تترصد خطباً ما يتدحرج في دخان غير مرئي، أو غبار تتلمسه محاولاً أن تنقّي نفسك من تراب الأبدية.

 

الفقد ربيبك، الفقد ضاغطاً على يدك مثل طفل يسوسه الضياع.

 

 

 

20.9.2013

 

برلين