طوى صباح فخري صفحة مسيرته الأخيرة، وترجّل عن الفن العربي الأصيل وموشحاته الأندلسية، وهو الذي أغنى الطرب لعقود طويلة. رحل آخر الكبار، الأسطورة وأحد أعمدة الفن الذي أطرب أجيالاً متعاقبة، بعد توقف قلبه عن النبض في دمشق التي أحبها وعاش فيها آخر أيامه، وترك خلفه أعمالاً فنية ومقطوعات موسيقية وأغاني حفظتها الألسنة على مدار أكثر من نصف قرن من الزمن.
عاصر صباح أبو قوس، الاسم الحقيقي لصباح فخري، الكثير من نجوم الغناء والفن العربي وتميّز بصوته وبقدرته على الإنشاد والتجويد وبأسلوب خاص في إشعال تفاعل الجمهور، من خلال رقصته الخاصة على المسرح، بحركة يديه ودورانه حول نفسه، في ما يُعرف برقصة "السنبلة" ومحاكاة رقصة الدراويش. لا يهدأ طوال ساعات من الغناء، حتى دخل اسمه موسوعة غينيس للأرقام القياسية، عندما غنى في عاصمة فنزويلا كاراكاس لمدة عشر ساعات متواصلة من دون توقف في عام 1968.
وأحيا لنحو نصف قرن إلى جانب حفلاته في معظم الدول العربية العديد من الأمسيات الغنائية في مختلف أنحاء العالم، ليخلف إرثاً فنياً أصيلاً غنياً عبر مسيرته.
ولد صباح فخري عام 1933 في حلب القديمة، حيث كان محاطا بثلة من شيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية، واعتاد والده اصطحابه صغيرا إلى جامع "الأطروش" في الحارة القريبة حيث تقام حلقات الذكر والإنشاد.
وفي باب "النيرب" كانت له أول حلقة إنشاد مدفوعة الأجر، وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره. وفي سن مبكرة تمكن من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب وحلقات النقشبندية، مفتتحا أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي، أحد أبرز مشايخ الموسيقى.
اشتد عوده وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد، من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي "السمّيعة" الذين يتمتعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك، مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينيات القرن الماضي.
وساهمت "خوانم" أو نساء ذلك الزمن بصعود نجم الفتى حيث أن من العادات الاجتماعية لسيدات حلب تحديد موعد شهري لكل سيدة تستقبل فيه من ترغب من معارفها، وتكون الدار مفتوحة على الغناء والعزف والرقص وهو ما كان يسمى "القبول" وصارت النساء يطلبنه للغناء في هذه التجمعات.
ولم يكد محمد صباح (صباخ فخري لاحقاً) يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك، شكري القوتلي، خلال زيارته إلى حلب عام 1946، مما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب.
رفض محمد صباح العرض الذي قدم له بالسفر إلى مصر، آنذاك، لصقل موهبته وآثر البقاء في دمشق والغناء عبر إذاعتها الرسمية. وتقول الكاتبة شذا نصار إن السياسي المخضرم، النائب فخري البارودي، كان قد أسس معهداً للموسيقى في دمشق وأعجب بخامة صوت محمد صباح الفريدة، وتوقع لها مستقبلا ساطعا. وفي إحدى الحفلات الإذاعية المباشرة على الهواء والتي كان يقدمها المذيع صباح القباني شقيق الشاعر نزار قباني أراد البارودي أن يتبنى المطرب محمد صباح ويعطيه لقبه فقدم المذيع المطرب باسم صباح فخري.
انطلق صباح فخري بعد انكفاء في عمر الـ15، وعاد إلى أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق وما كان يعرف بخيمة حماد التي غنى فيها مع المطربة اللبنانية صباح، وهناك قدم الموال بالقدود الحلبية وغنى "مالك يا حلوة مالك" و"يا مال الشام ويالله يا مالي / طال المطال يا حلوة تعالي". ثم كرّت سبحة القدود وغنى "يا طيرة طيري يا حمامة" و"قدّك المياس" و"قل للمليحة" وغيرها من الموشحات.
غنّى صباح فخري (نغم الأمس) مع رفيق السبيعي وصباح الجزائري، إذ سجّل ما يقرب من 160 لحناً ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشّح وموال وقد حافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تتفرد وتشتهر به حلب. ووقف في عام 1974 أمام الفنانة وردة الجزائرية بطلاً لمسلسل (الوادي الكبير) الذي تم تصويره في لبنان.
رحل صباح فخري الذي حافظ على الفن العربي الأصيل، ومعه تطوى صفحة تاريخية من الطرب كآخر الكبار.
المصدر: "النهار"