Share |

صفعة الانهيار . . في ذمة جحيم الاغتراب الجديد...قصص قصيرة بقلم : خالد ديريك

يشعل إبراهيم سيجارة تلو أخرى مع فنجان من قهوة مرة في مقهى بضواحي إحدى كبرى المدن المانيا ،أحياناً لا يبين  تفاصيل وجهه من ضباب الدخان الكثيف وكأنه يريد أن يحجب نفسه عن العالم وأحياناً أخرى وبنبرة ملؤها ألم وسقم الإرهاق البادئ من حديثه وعيون مائل للاحمرار ومنفوخ بالدمع ومقدوح بالشرار يسرد لنا  قصته مع أمل.إبراهيم شاب في الثامنة والثلاثين من العمر ، وذو لحية متوسطة الطول وشعر قصير، متزوج منذ سبع سنوات من أمل التي تصغره بست سنوات،  ولهما طفلان (بنت وصبي).

قصة إبراهيم . . وغربة ألمانيا !

 

إبراهيم : تزوجنا أنا وأمل بعد قصة حب دامت أكثر من ثلاث سنوات ،تعرفت عليها عندما كانت تمر في كل اليوم من أمام محل الألبسة الذي كنت أعمل فيه ،وهي كانت  تعمل في عيادة  طبيب الأسنان كممرضة  في الطابق الثاني من المبنى ذاته. وحدث التعارف ثم علاقة الحب التي تكللت بالزواج وأنجبنا طفلين كَوَردتين.

لم يصدف وأن حدثت مشاكل كبيرة بيننا ،كنا متفقين على معظم الأمور ،صحيح كان هناك نوع من المعاتبات وعدم الرضى في بعض المسائل ، لكن لم تصل إلى درجة  النبذ والقطيعة. قذفتنا الأقدار كمعظم السوريين إلى ما وراء الحدود و البحر  بسبب الحرب الدائرة في البلاد منذ عام 2011 وأما الآن لم  ينقزم  بيننا فقط التفاهم  بل انقرضت أيضاً النجوم من سمائنا وجف المطر من غيمنا و أذبلت زهور حديقتنا بصفعة واحدة في زوبعة فوضى الزمن.

يتنفس صاعداً بعد أن شعل سيجارة مارلبورو أخرى..... بعد تجاوز رحلة العذاب على البر وفي البحر وطئت أقدامنا أرض ألمانيا التي كنا نظنها مركز الأمان  لكل شيء، كنا نتخيل ونحن في بلدنا  بأن أوربا عامة هي جنة الله على  الأرض ،كنا نظن بأننا سنلتزم الجلوس وبينما الرواتب والمساعدات ستنهال علينا والكثير من الأشياء الأخرى التي كانت ترتسم أمام أعيننا كأحلام  سرمدية مصبوغة بالسعادة اللامتناهية  ، لم نكن نعلم بأن أموراً غير مادية أيضاً  قد تؤثر على حياتنا وتمزق الحبل ، وتدمر القفص وتراكم الخيبات على التل الجرداء . نعم هنا حيث  الحرية والأمان والرعاية الصحية والاجتماعية وإلخ . لكن لكل شيء له إيجابياته وسلبياته والسلبيات ستكون أكثر إذا أسأنا استخدامها.

زوجتي نسيت أيام العشرة في سوريا !!

 

فجرت المشاكل بيننا في ظرف أقل من عام بعد تقديمنا على طلب اللجوء في المانيا عندما بدأت تتصرف وكأنها مستقلة عني في أغلب الأشياء وتخبرني ( كل شيء هنا بالشراكة ،انسَ حياة سوريا ،لازم نندمج ونقلدهم هالأجانب وعاداتهم حلوة وأهم شي حقوقنا محفوظة وحريتنا مصانة وما حدا يقدر يأذي حدا ).

فهي لم تكتف طلب المساواة في الطبخ والجلي والتنظيف وتربية الأولاد وأنا بدوري لم أعارض هذا الشيء ، فقد كنت أساعدها أحياناً عندما كنا في بلدنا لا بل أصبحت تصدر الأوامر بدون احترام وحياء أو اكتراث لحرمة عشرة العمر بيننا وكأنني خادم عندها وترفض أغلب آرائي ، ولا تريد أن تسمعني عندما أناقشها عن مفهوم الشراكة والحب والتعاون بين الزوجين.

صبرت كثيراً على أمل ألا يتبدد شعاع مستقبلنا بتصرفات صبيانية وفهم خاطئ لمعاني الحرية والمساواة والقانون في هذا البلد ، عبث، بدت وكأنها غير أمل التي أعرفها . كيف تغيرت بهذه السرعة ؟. عاجز أنا عن الاستيعاب إنها صدمة وصدمة كبيرة.

الفهم الخاطىء للحرية!!

استفحلت الأمور أكثر  ولم تجد  نفعاً  جميع المعاكسات والنقاشات التي اتصفت بالكثرة والعصبية أيضاً ، بل وأصبحنا لا نطاق بعضنا البعض ، وفي ذات مرة وجهت لي عبارة قذرة لأنني رفضت إحضار الملابس من الغسالة فأصفعتها على خدها اليسرى وتركتُ المنزل  لبضعة ساعات. وعندما عدت  لم أر أحداً ! حاولت الاتصال بها عبر الهاتف لا يوجد الرد. وفي برهة من وقت وبينما كنت جالساً في شرفة المنزل ، رن جرس الباب إنهم الشرطة أخبروني بضرورة مرافقتهم إلى المركز لأن زوجتي قدمت الشكوى ضدى مدعية تعرضها للضرب بشكل متكرر من قبلي.  وإن هي والأطفال في مكان آمن لكن لا يحق لي اللقاء بهم منذ اليوم وصاعداً.

بعد أخذ ورد ومكوث عدة أشهر في السجن حدث الطلاق والآن أرى أطفالي  مرة واحدة في الأسبوع.

خسر أملاكه وعائلته !!

 

ينظر إبراهيم إلى أشجار خضراء محيطة بالمقهى وهو ينفخ في سيجارته ودموع تنهمر حبة حبة من بين جفونه وبدا وكأنه يهذي.... لم يعد لي شيء في هذه الدنيا، خسرت أملاكي في سوريا  بين قذائف الحرب ومصروف السفر وهنا خسرت نفسي وأطفالي وزوجتي .إنه لا يتوقف عن الدخان  ، ويمدد كفه اليسرى بين اللحية وشعر الرأس وكأنه يريد أن يمسح كل هذه الغشاوة والمصائب في لحظة واحدة . ويكمل ما يدور في مخيلته : بعد سنوات من السفر في رياض الحلم والسعادة والهمس في آذان الطبيعة والعزف مع الطيور على أوتار الأشجار ، توقفت عجلة الآفاق  ، وأصبح الحاضر مهزوزاً منذ أن رمانا زلزال الوطن إلى خارج الأسوار واحتضنتنا صفعة الانهيار لتحدد لنا الفراق اختيار.

كيف سيكون حال الأطفال بدون أب في بلاد الاغتراب؟.

أريد أطفالي ..أريد العودة إلى وطني.

أريد أطفالي .... أريد العودة إلى وطني.

أريد أطفاليييي .. أريد العودة إلى وطني.