Share |

قصتان قصيرتان ...بقلم: مهند ناسو السنجاري

 

حين تبكي الآلهة

 

 

قصة قصيرة مهداة إلى أرواح شهداء مدرسة (قبك) الابتدائية

في ذلك الصباح الخريفي الأسود ..دق جرس المدرسة إيذاناً للتلاميذ بالخروج لاستراحة قصيرة في باحة مدرسة (قبك) الابتدائية..ولسائق الشاحنة الذي نفذ صبره و تعبت أصابعه من النقر على المقود.

 جلس التوأم "علي وعمر" مفترشين الإسفلت في ظل المصد الخشبي لكرة السلة، المنتصبة فوق العمود الحديدي وسط ساحة المدرسة ،والابتسامة الملائكية بفعل البهجة تأبى أن تفارق وجهوهم الصغيرة ،وفي الوقت الذي اخرج عمر قربة الماء البلاستيكية من حقيبته الملونة كان شقيقه علي يراقب كالصقر إقرانه من التلاميذ الذين يتراكضون من حولهم كسرب من الفراشات،يستمتع بنشوة تحقيق الحلم في "ارتياده المدرسة"تناوبوا الشقيقان ارتشاف الماء كما تناوبوا قضم لوح الشوكلاته خاصتهم .

وحين كانت تمضي بسرعة دقائق فرصة الاستراحة القصيرة، عند علي وعمر ..كانت طويلة جدا بالنسبة لسائق الشاحنة.. بل وكأن الزمن قد توقف.!اخذ عمر يشبك أصابعه في لفائف شعر شقيقه محاولا تعديل تسريحته،هذا وعلي منشغل في إعادة قربة الماء لجوف حقيبته ،ثم سأله عمر : ماذا سترسم على الصبورة إذا ما طلب منك المعلم ذلك؟ فاخذ علي يجول بنظره من حوله لايجاد ما سيرسمه، ثم أردف قائلاً وهو يشير بسبابته الصغيرة نحو سور المدرسة : سأرسم هذه الشاحنة.

وفي هذا الوقت وفي غفلة عن الملائكة.. كانت الشاحنة قد اخترقت سور مدرسة (قبك) لتفجر الحقد ،وتنشر الموت والدمار حتى باتت المدرسة أشبه بكرة من اللهب،مخلفة سحابات من الدخان مثقلة بأشلاء الجثث البريئة،ومعها الأحلام الملونة.

سقط علي مضرجا بالدماء وبجانبه عمر المشوه بالحروق، وخيط الدم الرفيع من أذنه اليمنى يتقطع على وقع انتفاض ما تبقى من جسده ، ولم يكن يفصل "التوأم" سوى نصف حقيبة أتت عليها النيران، وبجهد أخير وبأنفاس لاهثة استطاع علي أن يزحف يده ليمسد بأصابعه المدمية يد شقيقه عمر المرتجفة، والتي كانت لا تزال تقبض على ما تبقى من لوح الشوكلاته، ينصت كل منهم لخفقان قلب الأخر،يتبادلون النظرات الأخيرة بأعين غلب عليها الخوف..وحين سقطت الدمعة الأخيرة من عين عمر توقفت أصابع علي.

 

-----------------------------

 

سهرة مع عزرائيل الحزين 

نعم أنا صديق لعزرائيل..!!

  ولا تسألوني كيف ولماذا ..؟؟

كعادته حين يفرغ من قبض أرواح بني البشر ليأخذ قسطا من الراحة ، يطير إلي مسرعاً .

نجلس على ضفاف نهر قريب ، بعيدا عن أعين المارة ،نحتسي الخمرة ونتشاور في قصص الحب ونروي الأكاذيب حتى مطلع الفجر، وربما ينتابكم الفضول للحظة وتسالون : كيف له أن يرى عزرائيل ويجلس معه ..؟؟

فكما قلت :لا تسألوني فليس باستطاعتي إجابتكم ..؟؟

رغم درايتي بأنه سيأتي يوما و يقبض روحي بدم بارد إلا انه كان ومازال اعز أصدقائي ، لان علاقتنا أقوى من علاقة إنسان بملاك فنحن تربطنا أسرار وخفايا لا يعلمها سوانا .

بعد أن انتهينا من الكاس الأول و الثاني اخذ يستفسر مني عن رأي الإحياء بوفاة هذا و تلك و أنا بدوري اسأله عن سبب قبضه لأرواحهم..؟؟

كثيرا ما كان يحدثني عن أخر أعماله المهنية ، حين يتوفى عريس في ليلة زفافه .. أو امرأة وهي تضع مولودها الأول.. أو غني لم يتنعم بثروته.. و أكثر ما كان يزعجني حينما كان يسرد قصص الفقراء لأنها كانت متشابهة بفحواها فترى فقير يموت جوعا وأخر بردا و ثالثهم  ظلما إلى أخره من قصص موتهم المملة ، وربما يعود ذلك إلى كوني كنت أراهم أمواتا وهم على قيد الحياة..!!

ولكن اليوم لم يكن أبو عزو و هذا تسميتي المرحلة لعزرائيل كعادته بخفة دمه وروحه المرحة فكان الوجوم واضحا على محياه و الندم يشع من تحت حاجبيه الغليظان و جفنيه المائلة للزرقة .

انتابني الشك والذعر  و تغلغل الخوف إلى خلجات نفسي حينها قلت :أن ساعة اجلي قد حانت و ما يقلقه فقدان صديق.

وانأ أفكر في ذلك قال بهدوء : لا تخف فان ساعتك لم تحن بعد .

أثلجت كلماته قلبي وأعادت الدم إلى عروقي  فقلت وأنا ابتلع ريقي : أذن لماذا كل هذا الحزن يا صديقي ملك الموت..؟؟

فأجابني بدمعة لها أن تهز العرش السماوي وقال بصوت أشبه بتلك الأصوات التي حدثني عنها حين ينال من احدهم :

اليوم جلست على سطح منزل كنت قبل أشهر قد قبضت روح طفلهم الوحيد الذي لم يكن قد بلغ ربيعه الثاني و أنا كذلك أتربص بروح جارهم العجوز فانتابني الفضول فأخذت استرق النظر من نافذة صغيرة تطل على احدى غرف المنزل حيث يجلس الوالدين المفجوعان بصغيرهم  اللذان كانا ما يزالان يواسي احدهم الأخر بفقدان طفلهم الوحيد ،  ففي الوقت الذي كان الأب المسكين يقبل دراجة طفله المركونة  والملطخة ببقع الشوكلاته ، كانت والدته تعيد ترتيب ملابسه التي ما تزال تحمل بين طياتها رائحة عرقه وأنفاسه  ذلك و هم يستمعون بحزن لضحكته وتلعثمه من خلال الشريط المسجل له حين بدأ النطق لأول مرة .

كانت بصماته ما تزال عالقة في كل جزء من المنزل " شخابيط القلم على الجدران ،حمامته الجميلة أفقست بيضها، الدجاجة التي رسمها على كتاب والده، نواة الخوخ التي رماها في الحديقة ها هي قد نبتت ، خصلات شعره البني العالقة بين أسنان المشط ، صور أعياد ميلاده، فردة حذائه الصغير تحت الأريكة ،كرته الملونة مازالت تنتظر عودته".

فحاولت التخفيف من حزنه قائلا: حقا انه لأمر فظيع و مؤلم.

فأجاب : ليس هذا سبب حزني ؟

فقلت له : لا شك و أنك قتلت و الديه ؟

فأجابني : كلا  فقد تركت الوالدين وذهبت لقبض روح جارهم العجوز وخلال عودتي سمعت صرخة والدة الطفل صرخة شقت الكون لتصل إلى عنان السماء بل حتى أنها وصلت لمسامع الله ..!!

 فانتابني الفضول لمعرفة ماذا يحدث و ليتني لم افعل..؟؟!!

فقلت له : بحق من سلمك شريعة التلاعب بأرواح البشر قل لي وبسرعة ماذا حدث..؟؟

فأجاب باكيا : صرخت الأم حين رأت قطعة علكة "لبانة" ممضوغة كانت لا تزال ملتصقة في جيب قميص صغيرها المتوفي.

 ----------------

mns_m7@yahoo.com