Share |

الثقافة السورية الموزعة بين جزر متباعدة...بقلم: حليم يوسف

الكاتب :حليم يوسف
الكاتب :حليم يوسف

بعد نصف قرن من التخدير العام، استيقظ الجسد السوري فجأة من السبات البعثي، العروبي، ليجد نفسه أمام حقيقة لا تسرّ أحداً. وهي أن هذه “الوحدة العضوية” التي تجمع بين أعضاء هذا الجسد لم تكن إلا مظهراً خارجياً، ديكوراً جميلاً  صنعته القبضة الحديدية لسلطة عسكرية، مخابراتية، اختزلت الوطن في حزب والدولة في جهاز مخابرات.

 

حولت السلطة هذه الوطن والحزب والدولة والأجهزة الأمنية كلها إلى خاتم في يد فرد واحد أوحد، القائد الخالد والأبدي الذي يمسك بكل خيوط الماضي والحاضر والمستقبل في يده. يد اختزلت بدورها كل ألوان الجسد السوري في لون واحد، داعية الجميع للركون إلى حقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش، وهي أن هذه البلاد التي تسمى سوريا ماهي إلا “قُطر” من أقطار عديدة أو جزءاً من وطن أكبر متجانس هو الوطن العربي، وكل من يعيش فيه هو عربي بالضرورة وله لغة رسمية واحدة هي العربية والكل ينتمي إلى “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”.

 

هذه هي العباءة السوداء التي كانت تغطي حقيقة جسد منهك من الداخل، يتداخل تحت جلده نسيج قومي وديني ومذهبي وطائفي مختلف الألوان. وأصبح للعباءة ذات اللون الواحد سياقها الواضح والمعلن، وللنسيج الخفي المتلون سياقا آخر، بحيث يغذي كل مكون من مكونات هذا النسيج نفسه  بمسببات الحياة والاستمرار بمعزل عن المكون الآخر. وساهم مرور عقود من الزمن على تفاقم أزمة العلاقة بين السياقين من جهة، وازدياد الشرخ الروحي والوجداني والفكري بين مكونات هذا النسيج من جهة أخرى، حتى باتت غريبة عن بعضها، وكأنها تقيم في جزر معزولة عن بعضها، رغم تجمعها العضوي في جسد واحد.

 

عباءة سوداء أم ثوب من رقع ملونة؟

ما حدث بعد العام 2011 هو إزاحة القبضة الحديدية عن جزء من الجسد ومعها العباءة السوداء، فبدا الثوب الذي يغطي الجسد وكأنه مجموعة رقع متعددة الألوان وقد تمت خياطتها بطريقة رديئة. ولا يحتاج الأمر سوى لحركة خفيفة حتى تتساقط الرقع على الأرض. وهكذا فرضت الظروف الجديدة على كل رقعة أو كل مكون الدخول في معركة البقاء والاستمرار في الحياة. وبدأت حروب الرقع المتنافرة باللجوء إلى طلب المساعدة والاستقواء بجهات وقوى ما وراء الحدود.

 

وفي ظل غياب العمل على تشكيل الهوية الوطنية السورية الجامعة لنصف قرن، انكفأ كل مكون من مكونات هذا النسيج على ذاته وبرزت هويات متعددة بتعدد المكونات القومية والطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية والتي كانت لها امتدادات إلى ماوراء الحدود. وهكذا كانت إيران وحزب الله وروسيا أقرب إلى النظام من السوري المعارض، وكانت تركيا وقطر والسعودية أقرب إلى المعارضة من السوري الموالي للنظام، وكان الكردي القادم من تركيا والعراق وإيران أقرب إلى الكردي السوري من السوري الموالي أو المعارض. ووصل الأمر بالنظام إلى قتل السوريين المعارضين بسلاح الجيش الروسي، وتحولت المعارضة السورية المسلحة إلى جيش من المرتزقة يتقدم الجيش التركي لقتل الكرد السوريين وسفك دماء السوريين من الموالين للنظام، بل واحتلال الأراضي السورية لصالح الجيش التركي، وبلغ الأمر ببعض قوى المعارضة السورية المسلحة إلى خوض حروب الجيش التركي في ليبيا وأذربيجان.

 

الخارطة السياسية والخارطة الثقافية

كان لا بد من رسم الخارطة السياسية للحالة السورية الراهنة، وإن كانت بتكثيف شديد، لفهم الخارطة الثقافية السورية التي تبدو أشد تعقيداً من الحالة السياسية. وإذا كانت الجبهات السياسية والعسكرية في سوريا الحالية تتوزع بين ثلاث جبهات رئيسية، فإن الثقافة السورية تتوزع بين جزر كثيرة متباعدة لا علاقة لها ببعضها. يمكن تسليط الضوء على ثلاث جزر منها فقط، بما هي انعكاس يحاكي الحالة السياسية الراهنة:

 

أولاً- الثقافة “الرسمية”:لم تستطع التغيرات التكنولوجية  والمعلوماتية والانفتاح الهائل، الذي لا حدود له في وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، من تغيير الذهنية التي تدار بها المؤسسات الثقافية السورية الرسمية. عصفت الأحداث بسوريا من أقصاها إلى أقصاها، ابتداءً من قتل مئات الآلاف من السوريين، مروراً بهجرة وتشريد الملايين منهم وانتهاءً بمئات آلاف الجرحى والمعاقين والمفقودين والسجناء، كل ذلك ساهم في تعميق الشرخ الثقافي بين السوريين. ولم يتغير أي شيء وبقيت الحالة الثقافية على حالها حبيسة مؤسسات كسيحة و”اتحاد للكتاب العرب” يتخذ من الموافقة الأمنية شرطاً لقبول العضوية فيه.

 

ثانياً- الثقافة الموازية: نحت الثقافة التي أنتجتها المعارضة منحى مطابقاً لثقافة النظام من حيث البنية الذهنية، ومنحى معاكساً له من حيث الصبغة الأيديولوجية التي اتخذت طابعاً دينياً إلى حد كبير. هذا عدا عن الاحتكام إلى مؤشرات تحيل إلى الجهات الممولة، حيث لعب المال القطري،مثلاً، دوراً محورياً في هذه الثقافة، إلى جانب الدعم اللوجستي والمالي التركي وحضور أجندة الإخوان المسلمين في كافة المؤسسات الثقافية من جمعيات واتحادات وما إلى ذلك من تسميات لا تحمل من الثقافة سوى اسمها.

 

لكاتب هذه السطور تجربة شخصية متواضعة مع “اتحاد الكتاب العرب” التابع للنظام ومع “رابطة الكتاب السوريين” التابعة للمعارضة، قد تغني عن سرد الكثير من التفاصيل بهذا الخصوص. تم رفض طلبي للانتساب إلى اتحاد الكتاب العرب التابع للنظام في سوريا لأسباب أمنية. وتم طردي من رابطة الكتاب السوريين التابعة للمعارضة بتهمة تعاملي مع جهة متحالفة مع النظام.

 

ثالثاً- الثقافة الكردية: من المفارقة القول أن العصر الذهبي للثقافة الكردية  في سوريا كان في سنوات الاحتلال الفرنسي لسوريا، حيث صدرت جريدة هاوار بالكردية في دمشق، بعد أن حصل صاحبها جلادت علي بدرخان على ترخيص رسمي لها من الفرنسيين. وهي الجريدة التي كرست الأبجدية اللاتينية للكردية الحديثة. وأنشأ الشاعر جكرخوين ورفاقه النادي الكردي في عاموده، عدا عن الكثير من الجمعيات والتجمعات الثقافية. وقد توقف منح التراخيص للمنشورات الكردية بعد رحيل الفرنسيين، ودخل النشاط الثقافي والسياسي الكردي منذ الاستقلال وحتى الوقت الحاضر في  طور الحالة السرية. وبقيت اللغة الكردية تنتعش حينا وتكبو حيناً آخر في الظل. وربما تكون الجزيرة الأكثر عزلة للثقافة السورية هي جزيرة الكتاب الكرد السوريين الذين يكتبون باللغة الكردية.

 

وثمة جزر أخرى صغيرة تتوزع بين هذه الجزر الثلاثة الرئيسية التي تطرقنا لها، وهي جزر متنافرة، ما من جامع يجمع بينها سوى الانتماء الجغرافي إلى نفس المكان. وفي الوقت الذي يصغر فيه العالم وتتقارب الثقافات من بعضها وتنتعش من خلال انفتاحها على بعضها، نجد الجزر الثقافية السورية تزداد تنافراً وتباعداً من خلال تكريس اللون الواحد وعدم الاعتراف بالآخر وإنكار حقه في المساواة وحرمانه من حقه في تقرير مصيره بنفسه، وهو حق أساسي نصت عليه جميع المواثيق الحقوقية.

 

17-04-2023

Npasyria