Share |

أمل مخادع... قصة قصيرة بقلم : ريزان صالح إيبو*

ريزان صالح إيبو
ريزان صالح إيبو

 

في صبيحة يوم شتوي، استيقظ كعادته من أصوات زملائه في السكن. الزملاء الذين ينحدرون من كل المناطق، دون أن يكون هناك أحد من منطقته، أو مَن يتحدّث بلغته.

كان المشرفون على السكن قد اعتادوا على إيقاظهم بطريقة أقلّ ما يمكن أن يقال عنها بأنها وقحة؛ حيث كانوا يتفقون مع أحد الصغار، ليخرج وينادي بأعلى صوته «هي إلى الإفطار»، لينضمّ إليه كل أطفال السكن تقريباً في قرع الأبواب والمناداة بشكل مستفزّ.

جلس على سريره، وفكر كعادته، وتساءل بينه وبين نفسه حول هذا الإزعاج الذي لا مبرّر له، ثم تمتم بالكردية التي لا يفهمها أحد. هناك حيث كانت لغته بمثابة المنقذ له في الحالات المشابهة.

لم ينزل إلى المطعم الخاصّ بسكنه ذاك اليوم؛ إذ أن وجبة الإفطار كانت فقط نوعاً واحداً كل يوم، وفي ذاك الخميس كان النوع المختار لا يروق لمعدته، كما كان يعتقد أنه سيعود إلى مدينته في ظهيرة اليوم، فهو لا يطيق أن يصل إلى بيته، وأن لا يكون جائعاً، فأيّ طعام هذا الذي يشبه طعام أمه.

لبس كما في كل يوم بدلته المدرسية، وتوجّه إلى الصفّ، دون أن يهتمّ بمَن حوله.

مضى الوقت، وقُرِع جرس المدرسة، إيذاناً ببدء الاستراحة الأولى، عندما وصل إلى باحة المدرسة سمع موظّف المقسم ينادي باسمه، فأدرك أن هناك شيء ما بانتظاره، قال في نفسه «قد يأتي أبي متأخّراً عن عادته الأسبوعية، ليسطحبني معه إلى البيت»، استقبل الاتصال بسعادة، كأيّ طفل يجد مهرباً من معاناته.

كان أباه على الطرف الآخر، وأخبره بأنه رجل، ويستطيع الاعتماد على ذاته، وتحمّل البعد كطبيب نفسي يسعى لمعالجة المرض قبل إصابة المريض.

في الحقيقة كان الأب قادراً على تهدئته قبل إخباره، لكن ضيق الوقت المخصّص لاستقبال المكالمة كان قد أوشك على الانتهاء، مما جعل الأب يضطرّ إلى مصارحته، لكونه لا يستطيع جلبه إلى البيت.

 

وهذه المرة كانت اللغة الكردية مَن أنقذته من خطر أن يفهم أحد الأساتذة ما يردّده من اتهامات وشتائم...، كان يشعر وكأن كلّ مَن حوله قد تخلّوا عنه، فمَن يبقون في السكن يعدّون على الأصابع في أيام العطل.

لا طعام جيداً في أيام العطل، ولا مَن يخفّف عنه الملل الذي سيشعر به في العطلة، وفي هذه الأثناء اتجه إلى باحة المدرسة، بينما رأسه كان غارقاً في تلك الأفكار، ووجهه بالدموع، كان يبكي بصوت مرتفع، دون أن يستوقفه أحد، ويسأله عمّا به.

سمع فجأة صوت فتاة تخاطب أمّها بالكردية، بل وبلهجة كوبانية، التي هي لهجته في نفس الوقت، سمعها وهي تقول لأمّها «انظري كيف يبكي بحرقة»، ذكره صوت الفتاة بشعور ينتابه كلما توجّه إلى كوباني، شعور ممزوج بالأمان والقوة والدفء، فكلما قطع جسر «قراقوزاق»، وعبَر إلى الجهة الشرقية من نهر الفرات يراوده ذاك الشعور، وقال لنفسه «حافلة مجه سور ستنقلني اليوم أيضاً إلى كوباني»، بينما هو يبكي ويفكّر اقتربت منه الأمّ وسألته:

-         لماذا تبكي يا بُني؟!

لم يشأ أن يجاوبها قبل أن يؤكّد شعوره في كونها من كوباني، فسألها:

-         من أيّ منطقة أنت؟

كرّر السؤال ذاته، بينما هي تسأله نفس السؤال، إلا أنها استسلمت أخيراً وجاوبته بأنها من سكان حيّ الحيدرية في حلب، فأخبرها عن سبب بكائه:

-       

اليوم تبدأ العطلة، وأنا لا أستطيع الخروج وحدي من السكن، لكي أسافر إلى كوباني.

كان يريد أن يلحق جوابه بسؤال:

-         خالتي هل تستطيعين مساعدتي على الخروج من هنا؟

 

لكن ما منعه من طلب المساعدة هو كبرياؤه، فقد كان يخاف من أن ترفض السيدة طلبه، فما أسهل من أن يُرفَض طلب طفل أعمى لا يتجاوز عشر سنين، ولربما فكر في أنه لا يريد أن يكون عبئاً عليها، فلو كانت السيدة تتجه إلى كوباني وهو برفقتها لكان الوضع مقبولاً، لكن أيّ ساذج سيقوم بإخراج طفل من مدرسة داخلية تحت مسؤوليته الشخصية، ليرسله إلى مدينته؟

سكت ولم يطلب منها أيّ شيء، وكل ما قالته السيدة قبل ذهابها «وماذا بوسعي فعله؟»، في إشارة ليأسها الكبير، فذهبت وتركته، فيما بقي الطفل واقفاً في مكانه يبكي ويتساءل:

-         مَن هذه السيدة؟ وكيف وصلت إلى هنا؟ أيّ سبب دعاها لسؤاله عمّا يبكيه باللغة الكردية وهي تجيد العربية؟

قال لنفسه «قد أكون مخطئاً؛ إذ نواحي ملأ باحة المدرسة ضجيجاً، ربما كنت أردّد تلك الشتائم التي خرجت بها من بين معلّمي المدرسة الجالسين في المقسم.

كأنه في غيبوبة وصُفِع، فاستفاق منها، لكنه كان ولا يزال يبكي حتى اليوم، وبقي الأمل يطارده أينما حل، ليخدعه، ويعلن انتصاره كما في كل مرة.

 

 

 

 

 

 * أشهر كفيف كرديّ على منصّات التواصل الاجتماعي في غربي كردستان. شابٌّ «كوبانيٌّ»، مشاغب ومشاكس بفكره القيّم وصراحته الجميلة، محبّ للحياة والوطن والصداقة وللإنسانية. ينشر على الفيس بوك، ويغرّد في تويتر، بأفكار جريئة ومواضيع مجتمعية، يتمتّع بحسّ الدعابة اللطيفة والذكاء الحذر...

 

المصدر : موقع : siba