كركوك ليست مجرد مدينة متنازع عليها كما يحلو للبعض أن يصفها، بل هي قلبٌ نابض في جسد كردستان، ورمزٌ لتاريخ طويل من الصمود والهوية المتجذّرة. فحين يؤكد الحزب الديمقراطي الكردستاني إن كركوك قلب كردستان، فهو لا يطلق شعارا سياسيا، بل يعبّر عن حقيقة جغرافية وتاريخية ثابتة لا يمكن طمسها مهما حاولت السياسات الممنهجة تغيير ملامحها.
الوثائق الرسمية والإحصاءات السكانية تؤكد هذه الحقيقة. فإحصاء عام 1957، الذي يُعدّ الأدق والأقرب إلى الواقع قبل سياسات التغيير الديموغرافي، يُظهر بوضوح أن الكرد كانوا يشكّلون الأغلبية السكانية في كركوك، يليهم التركمان ثم العرب. لم يكن في ذلك الوقت مجالٌ للشك أو التلاعب بالحقائق، إذ لم تكن الدولة العراقية قد بدأت بعد بسياسات "التعريب القسري" التي أرادوا بها تغيير وجه المدينة.
فحسب وثيقة منWashington Kurdish Institute تشير إلى أن عملية التعريب “بدأت في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين” بعد اكتشاف النفط في كركوك، ما شهد تدفق عرب وتركمان للمشاركة في صناعة النفط. تلك الوثيقة تقول ان يقول إن مشروع «الحويجة / هويجة» (الحويجة) بدأ عام 1936 ــ في عهد الملك غازي بن فيصل ــ ضمن مشروع ريّ أراضٍ شمل نقل آلاف الأسر العربية إليها.
وترى منظمةHuman Rights Watch أن السياسات الأوسع للتعريب في كركوك – وخصوصاً تلك التي شملت تهجير الكرد والتركمان وتغيير الهوية القومية – بدأت فعلياً وبكثافة من بعد عام 1968 وما تلاها من سياسات النظام البعثي البائد.
فمنذ ستينيات القرن الماضي، تعرّضت كركوك، شأنها شأن مناطق كردستانية أخرى، لسياسات تعريب قاسية وممنهجة. فقد جرى تهجير آلاف الأسر الكردية من المدينة ومحيطها، وتمّ جلب عشائر عربية من محافظات الجنوب والوسط، ومنحهم أراضي الكرد الأصلية بحجج وذرائع واهية. وترافقت هذه السياسات مع إصدار قوانين متعجرفة تهدف إلى طمس الهوية الكردية، مثل منع تسجيل الأسماء الكردية أو منح الامتيازات للوافدين الجدد على حساب السكان الأصليين.
لكن رغم كل تلك المحاولات، بقيت كركوك كردستانية الهوى والانتماء. فالتاريخ لا يُمحى بالمراسيم، والجغرافيا لا تُغيّرها قرارات سياسية. إن الجبال والوديان والقرى المحيطة بالمدينة، التي حاول البعض عبثاً تغيير طابعها الديموغرافي، تشهد على كردستانيتها، فيما تبقى أسماؤها القديمة دليلاً ساطعاً على أصالتها الكردية وجذورها الضاربة في عمق التاريخ.
إن من يدّعي اليوم أن كركوك "ليست كردستانية"، يتجاهل عمدا هذا العمق التاريخي والجغرافي، ويقفز فوق الحقائق التي يعرفها الجميع. فالسؤال البديهي الذي يجب أن يُطرح: إذا كان إقليم كردستان جزءا من العراق كما يقولون، فلماذا يتذمّرون عندما يُقال إن كركوك كردستانية؟ أليس من المنطق أن تكون كردستانية وعراقية في الوقت ذاته؟ إن رفضهم لهذه الحقيقة لا ينبع من حرص على "وحدة العراق" كما يزعمون، بل من إصرار على نفي هوية، كركوك وغيرها من مناطق المادة 140 من الدستور، القومية الأصيلة الضاربة في جذور التاريخ.
كركوك كانت وستبقى جزءا من كردستان، مهما تغيّرت السياسات وتبدّلت الظروف. فالشعوب لا تُلغى من الوجود، والهوية لا تُطمس بالقوة. لقد صمد أهل كركوك، الكرد والتركمان الأصليون، أمام محاولات التذويب، وبقوا أوفياء لأرضهم وتاريخهم. واليوم، حين يرفع الكرد شعار "كركوك كردستانية"، فإنهم يرفعونه باسم العدالة والتاريخ والجغرافيا والدم الذي سُفك دفاعا عن الهوية.
إن كركوك ليست قضية ملكية أرض فحسب، بل قضية كرامة وحق وذاكرة قومية. وكما لم تستطع كل الأنظمة السابقة أن تغيّر حقيقتها، فلن يستطيع الحاضر ولا المستقبل أن يغيّر ما هو راسخ في ضمير التاريخ: كركوك كانت، وستبقى، كردستانية.
K24