Share |

فيلم “كوباني”.. سينما المقاومة بأدوات متوفّرة واعتماد على مقوِّمات الحقيقة

 

 

منذ بدايات التغيير في شمال شرقي سوريا، والبدء برسم ملامح مرحلة تاريخيَّة جديدة، قفز فنٌّ إلى الواجهة لكن بخجل، وما إن مرَّت السنوات، حتَّى بات المتفرِّج على المشهد يرى تغييراً ملحوظاً وانتقالاً من الهواية إلى الاحترافية، وبات الفن الذي نتحدَّث عنه، أي السينما الأقرب إلى نبض الشارع، ومحاولة الغوص في ذاكرة الشمال المهمش الذي عانى الأمرَّين في مواجهة سواد التنظيمات المتشددة، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

وفي السياق، أنهى “كومين فيلم روج آفا” بالتعاون مع جهات عاملة في مجال الفن السابع، مؤخَّراً العرض الأوَّل للفيلم السينمائي الموسوم بـ”كوباني”، وهو شريط سينمائي يغوص في عمق معاناة مدينة، كان لها الفضل الأعظم في رسم خارطة المقاومة، ودحر أعتى تنظيم متشدد وضرب كل شعاراته واعتقاداته بعرض الحائط وبقوَّة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، لتغدو تلك المقاومة أسطورةً من أساطير العالم الحديث، وبقيت حكايةً للعالم حتَّى وقتنا الرَّاهن، ليُعاد تدويرها وإحياءها ضمن شريطٍ سينمائيّ.

 

الحكاية

يقول صنَّاع الفيلم، إن السيناريو بُنيَ على قصص وأحداث واقعية، وشخصيات حقيقية، معتمدة في الأساس على شهادات المقاتلين الحقيقيين الذين قاتلوا ودافعوا عن كوباني، بالإضافة إلى شهادات لأشخاص عايشوا تلك الفترة وكانوا فاعلين سواء على الصعيد العسكري أو السياسي في مرحلة الحرب ضد “داعش”، ولا سيَّما بالتحديد حرب كوباني، وعليه، انطلاقاً واستناداً على تلك الشهادات والروايات تم كتابة قصة الفيلم ومن ثمَّ السيناريو.

إلا أن صنَّاع الفيلم يشيرون إلى تواصل واستمرار التعديلات والتغييرات، وتكييف تلك القصص الواقعية مع الدراما وحبكة الفيلم السينمائي المطلوبة، وأيضاً تغييرات من نوع التكييف مع شروط وظروف العمل التي كانت تتغير باستمرار على إثر جائحة كورونا والتهديدات التركيَّة بغزو مناطق جديدة في الشمال السوري.

 

يروي الفيلم وفقاً لصنَّاعه، حكاية كوباني، وهي حكاية تبدأ من حصار كوباني في الأرياف، وصولاً إلى معركة التحرير، حيث نتابع ضمن الفيلم عدة شخصيَّات رئيسة، وهي شخصيات لعبت دور البطولة على أرض الواقع وليس ضمن الفيلم فحسب وحددت مصير الصراع، دون أن يرغب الصنَّاع تحديد أو اختيار رواية القصة من وجهة نظر شخص واحد، بل بجهود وتضحيات جماعية من المقاتلين والمقاتلات. 

 

تقنية العمل

يقول صنَّاع الفيلم، بأنَّ عمل أي شريط سينمائي، وبالتحديد إن كان من الأنواع الحربيَّة والإنتاج الضخم، وعدد الممثلين ومواقع التصوير والديكورات، هو أمر في غاية الصعوبة، من الناحية المادية على وجه الخصوص، ولكن اعتمدوا كصنَّاع سينما عاملين في المنطقة على الموارد والإمكانيات المتوفرة، وفي نهاية المطاف هو مجهود جماعي لعدد من الأشخاص والمؤسسات داخل شمال شرقي سوريا، وخارجها.

ويمكن اعتبار الفيلم إنتاجاً مشتركاً بين روج آفا وإقليم كردستان العراق وإسبانيا وألمانيا، ولكن القسم الأكبر، وبنسبة 60% من الداخلين في صناعة الفيلم هم من السكَّان الأصليين لمدينة كوباني ومن مؤسساتها الإدارية والعسكرية، أي هي مؤسسات يُكتَب لها أنَّها جزء أساسي من العمل والجهد المبذول.

والعديد من الآليات العسكرية المستخدَمة في الفيلم، والعربات المصفحة والأسلحة لم يتم استئجارها، أو الاضطرار حتَى إلى بناء مواقع تصوير ملائمة، لكن ظروف الحرب وأوضاع المنطقة رغم مآسيها والتي كانت من نتائج الحرب ضد تنظيم “داعش”، كانت بمثابة نقطة أفضلية بتوفير هكذا موارد والتي ربمَّا كانت ستكلّف عبئاً ماديَّاً ثقيلاً لا يقوى عليه الجانب المؤسساتي العامل في المجال السينمائي ضمن مناطق شمال شرقي سوريا.

 

عمل الطاقم التمثيلي بالكامل بشكلٍ تطوّعي، وهم أشخاص لم يسبق لهم وأن عملوا بمقابلٍ مادي، ففي النهاية يجسِّد الفيلم قصة شمال شرقي سوريا بالكامل وليس قصة مدينة ككوباني وحسب، الجميع يريد أن يروي تلك الحكاية ويعمل جاهداً على تحقيقها، الأمر الذي أدى إلى التغلُّب على كل الصعوبات بسهولةٍ ويُسر وفقاً لصنَّاع الفيلم والقائمين عليه.

 

في ظل الأوضاع التي تعيشها شمال شرقي سوريا، لم تكن عملية اختيار الممثلين سهلة، بل هي عملية استغرقت وقتاً طويلاً، استمرَّ مدة عامين من عمر إنتاج الفيلم وتحضيره، حيث تمَّ اختيار العديد من المقاتلين والمقاتلات، أو من الأشخاص ضمن المنطقة الذين عايشوا وشهدوا الحدث بأمِّ أعينهم، وأغلبهم كانوا من شريحة الشباب، من السياسيين والمقاتلين أو المسرحيين.

وبعض شخصيات الفيلم هي شخصيات حقيقيَّة، كبعض الشخصيات العسكرية المعروفة التي وردت في الفيلم والتي لعبت دورها بذاتها، ولا يمكن إغفال صعوبة أنَّ أغلب الممثلين في طاقم العمل هم ممثلون لأوَّل مرة، لذا كانت عملية تدريب الممثلين مستمرة على مرحلتين، الأولى ما قبل التصوير ومن ثم التحضير البدني والنفسي والغوص في عمق الشخصيات بشكلٍ عام، وتدريبات على السينما وأصولها، ومن ثم التحضير الأخير أثناء البدء بعملية التصوير.

في الوقت الحالي يقوم صنَّاع الفيلم بالعمل على صناعة دعاية ترويجيَّة للفيلم، وعمل ملصقات للفيلم لنشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بحسب خبراتهم وإمكانياتهم المتاحة، كما ويعرض الفيلم في بعض مدن شمال شرقي سوريا، وتم اختياره لعدد من المهرجانات السينمائية الدولية، في بنغلادش وإسبانيا.

 

مراحل طويلة

لا شكَّ أنَّ إنتاج فيلم سينمائي في منطقة تشهد حرباً وتهديداتٍ مستمرَّة يمكن اعتباره نجاحاً، قياساً إلى دول تعيش الأمن والاستقرار، فطاقم العمل عانى الأمرَّين أثناء مراحل التصوير، فعدا عن تفشي فيروس كورونا، الذي انسحبت آثاره على العالم أجمع، كانت التهديدات التركية وإطلاق النيران من حرس الحدود التركية باتجاه موقع التصوير بشكل مباشر بمثابة الصعوبة الأكبر.

 واضطر طاقم العمل في أكثر الأحيان إلى إيقاف عمليات التصوير أو على الأقلّ تأجيلها، ولكن دون أن يتوقَّف الطاقم في الوقت نفسه عن العمل في تحسين السيناريو وتدعيمه وتكييفه مع الظروف الملائمة والممكنة إلى أن تحين الفرصة لاستئناف عمليات التصوير مرَّة أخرى، لذا امتدّ التصوير الفعلي حوالي سبعة أشهر متواصلة بدايةً من شتاء العام 2021، لتستمرّ بعدها المراحل الفنية من مونتاج وصوت ولون ومؤثرات بصرية وسمعيَّة، وفقاً لتصريحات صنَّاع الفيلم لنورث برس.

 

السينما كفنٍّ مجتمعي

السينما وفقاً لصناع الفيلم هو فن مجتمعي بطبيعته بالدرجة الأولى، لذا بالنهاية هو فن يُصنع ليتفرَّج عليه المجتمع، لذا فإن حجم المشاهدات هي النقطة الفيصل في تحديد جودة الفيلم من عدمها، وعليه فإنَّ أغلب المشاهدين للفيلم في عرضه الأوَّل، أبدوا إعجابهم بالشريط السينمائي المعروض، سواء من ناحية الحبكة والدراما، أو من ناحية أداء الممثلين، أو حتَّى على مستوى بعض المشاهد التي تخلق نوعاً من التأييد العاطفي بطبيعة الحال لدى المجتمع.

لكن على المستوى نفسه، لم يخلو الأمر من بعض الانتقادات الموجَّهة للفيلم، وهي تعتبر حالة صحيَّة، حيث أبدى بعض المتفرجين آرائهم بعدم تطابق بعض الأحداث الواردة في الفيلم مع الوقائع على الأرض، وهو ما عليه الحال في كل الإنتاجات السينمائيَّة في العالم.

 

محاولة نقل الواقع بحرفيَّة إلى شاشة السينما وعرضه على المجتمع ذاته الذي كان له التأثير الأكبر في الحدث، يعتبر نقطة انطلاق هامَّة نحو تثبيت السينما للحظات خالدة في تاريخ المجتمعات، ونقطة انطلاق نحو أن تكون السينما وثيقة تاريخيَّة تبقى حيَّة وموجودة وتخبر الأجيال القادمة بما كانت عليه الأوضاع والحياة في مرحلة معيَّنة من دورة تاريخ منطقة اعتُبرت في فترة منكوبة كشمال شرقي سوريا. 

 

 

جوان تتر ـ نورث برس