Share |

كرد داغ تودّع عالمها الجليل الشيخ إبراهيم خليل عيسى- ودعوة إلى صناعة الذاكرة الجمعية

الشيخ إبراهيم خليل عيسى

 

د. أحمد محمود الخليل  -  للغربة سلبيات كثيرة، بل تتحول الغربة إلى سلبية مطلقة عندما يطول أمدها، ومن أسوأ سلبياتها أن يتفاجأ المرء بين حين وآخر برحيل صديق إلى الأبدية، من غير مقدّمات ولا وداع، وها هي الغربة تفاجئنا برحيل الصديق العزيز الأستاذ الشيخ إبراهيم خليل عيسى،

كنت قد سمعت في وقت متأخرّ أنه مريض في مشفى بدمشق، اتصلت بولده الأستاذ محمد ليوصلني به، أفادني أنه في حالة حرجة، ولا يقوى على الكلام، حاولت ثانية، كان وضعه قد تدهور أكثر، وها قد رحل يوم الثلاثاء 29 – 5 – 2012.

التقيت بالأستاذ الشيخ إبراهيم سنة 1983 في ثانويات عفرين، كان يدرّس مادّة التربية الإسلامية، وكنت أدرّس اللغة العربية، وسرعان ما أصبحت العلاقة بيننا أعمق وأوثق من علاقة زميل بزميل، إن طيبة قلبه الفطرية، وتواضعه الشديد، وروحه المنفتحة المرحة، وشخصيته الاجتماعية النقية من العُقد، والتي تجمع بين البساطة والعفوية والواقعية واللباقة والذوق الرفيع، هذه المزايا مجتمعةً كانت تجعله صديقاً قريباً من القلب والعقل معاً.

والأمر الذي رسّخ العلاقة بيننا أكثر هو الاهتمام المشترك بالعلم والمعرفة، فقد دأبت منذ أن كنت طالباً في المرحلة الإعدادية على مطالعة كل ما يقع بين يدي، وكم كان سروري غامراً حينما اكتشفت أن الصديق الراحل كان ينهج النهج نفسه، وصحيح أنه كان متخصّصاً في علوم الدين، باعتباره خرّيج كلية الشريعة في جامعة دمشق، لكنه كان منفتح العقل، بعيداً عن التزمّت، مطّلعاً على علوم الرياضيات والفيزياء وغيرها من العلوم، إنه كان يذكّرني بكبار علماء الكرد الذين كانوا يجمعون بين التبحّر في العلوم الدينية والعلوم الطبيعية والفلسفة.

إن العزيز الراحل أبا محمد كان يعشق الكتاب أيّما عشق، ومع أنه كان كثير العيال، ولا يملك من الموارد المالية سوى راتبه، ما كان يكتفي بقراءة الكتاب، بل كان يحرص على أن يقتنيه، حتى إنه كان يتتبّع بعض الكتب التي كانت تُنشر دورياً، ويحرص على ألا تفوته أية نسخة منها، وأذكر منها على سبيل المثال سلسلة كتب (المعرفة)، وكان يتتبّع أيضاً أجزاء بعض المصادر الضخمة، ويعمل جاهداً كي يضمّها إلى مكتبته العامرة بمختلف الكتب الدينية واللغوية والأدبية والتاريخية والعلمية، وحرصاً منه على الكتب، ولمحدودية مورده المالي، كان يقوم بنفسه بتجليد بعض المصادر القديمة، كي لا تهترئ.

كان الأستاذ الشيخ قد خصص من داره غرفة لمكتبته، وهي- فيما أعرف- أضخم مكتبة خاصة في منطقة عفرين وأغناها، وكانت أعذب ساعات حياته هي التي كان يختلي فيها بنفسه مع هذا الكتاب وذاك، إلى جانب كأس شاي، بلى، كلما كنت أزوره في بيته، كنت أجده جليس المكتبة وكأس الشاي، وبما أنه كان الأكثر علماً في عفرين بالعلوم الشرعية- فيما أعرف، وشديد الاهتمام بقضايا الناس ومشكلاتهم الاجتماعية، كانت داره معظم الأيام مقصداً للأصدقاء والزوّار بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية.

وصحيح أن الزيارات الكثيرة، وغير البادئة بموعد ولا المنتهية بوقت محدَّد، كانت تلتهم وقت فراغه، وتحول بينه وبين الانصراف إلى البحث والكتابة، لكنه مع ذلك كان يوظّف ما تبقّى من وقته القليل للبحث والتأليف، وقد أطلعني في زيارة له على مخطوط ضخم من تأليفه يدور حول المواريث في الشرع الإسلامي، وكانت له مشاريع بحثية أخرى، آمل أن يكون قد أنجزها قبل رحيله، ولعل ما لا يعرفه كثيرون أن الشيخ الراحل كان يحمل بين جنبيه مشاعر قومية ووطنية أصيلة، وإحساساً جمالياً رفيعاً، لكن وضعه كرجل دين كان يغطّي هذا الجانب، وقد قرأ لي أكثر من مرة أشعاراً له كان قد ألفها بالكردية، ودوّنها بالخط العربي.

وكثيراً ما كنت أسمع من الجدّات والأمهات العبارة الكردية " غسل يديه من الدنيا" Destêxwe ji dinêşuşt، تعبيراً عن رحيل أحدهم إلى الأبدية، وها قد رحل العالم الجليل الشيخ إبراهيم إلى الأبدية، وغسل يديه من الدنيا، ولا أشك في أنه ترك فراغاً كبيراً وراءه، إنه لم يكن يقوم فقط بدور الأستاذ وخطيب الجمعة والمفتي، بل كان يقوم بدور الموجّه الاجتماعي بالمعنى الأوسع، وكان يقوم مع بعض معارفه في المنطقة بدور المصلح الاجتماعي، وأعتقد أن كثيراً من قرى المنطقة حظيت بزيارة له أو أكثر إليها، أجل، إن رحيله خسارة كبيرة لشعبنا في كرد داغ، وآمل أن يقوم بعض مَن تتلمذ عليه علمياً واجتماعياً باستكمال رسالته الاجتماعية، ويسدّ بعض الفراغ الناجم عن رحيله.

وبهذه المناسبة الحزينة، أقترح على جماهير شعبنا في كرد داغ عامة، وعلى النُّخب الثقافية والسياسية والاجتماعية خاصة، ألا يتركوا ذكرى أعلامنا تنتهي مع مناسبة الأربعينية، وتضيع في طيّات الزمن، إن الشعوب بحاجة إلى أن تكون لها ذاكرة خالدة، ذاكرة يتواصل الأجيال من خلالها مع الأسلاف، ذاكرة ينصهر فيها ما هو مناطقي وحزبي وديني ومذهبي في بوتقة الوطنية والقومية، إن ذاكرات الشعوب هي جذورها الضاربة في عمق التاريخ، لذا، أقترح أن يقوم النخب الكردية بإنجاز ما يلي في أقرب وقت ممكن:

تخصيص مكان في مركز كل منطقة على الأقل، يسمّى (بيت الشعب) Mala Gel، أو أية تسمية أخرى مشابهة- وأعتقد أن هناك توجّهاً في هذا الاتجاه- تُحفظ فيه آثار كبار الشخصيات الفاعلة وطنياً وقومياً وثقافياً وفنّياً واقتصادياً واجتماعياً، في جناح يسمّى (Koçka Nemiran) (جناح الخالدين)، مع صور ومنجزات تلك الشخصيات، إضافة إلى جناح آخر خاص بالموروث الفولكلوري في المنطقة، وتخصيص قاعة للمحاضرات والندوات وأية أنشطة ثقافية وفنّية أخرى.

إن فتح (بيت الشعب) في المناطق الكردية، وفتح جناح باسم (Koçka Nemiran) (جناح الخالدين)، هو من أكثر الوسائل فاعلية لصناعة الذاكرة القومية والوطنية، ولتواصل الأحفاد بالأسلاف، وخاصة أن شعبنا تعرّض طوال خمسة وعشرين قرناً لتغييب تاريخه وتدمير ذاكرته الجمعية، إن فتح (Mala Gel) ليس مستحيل التحقيق عندما تتوافر الإرادة المخلصة والعمل المنظّم، وأتمنّى أن يبادر نُخَب شعبنا في كرد داغ إلى تحقيق هذا الإنجاز المهم جداً، وأن تكون مكتبة الأستاذ الشيخ الراحل إبراهيم خليل عيسى، وبعض مؤلفاته ومقتنياته الخاصة (نظارة، أقلام، إلخ) نواة لبيت الشعب في كرد داغ، وأن يفكر النخب ويخططوا لتوسيع الفكرة وتطويرها مستقبلاً حسب الممكن.

ألا رحم الله فقيدنا الغالي رحمة واسعة، وجعل مقامه في عِلّيين.

وألهم أهله الصبر والسلوان.

السبت 2 – 6 – 2012.

dralkhalil@hotmail.com