Share |

لماذا يرحل الطّيبون دائماً دون وداع يا فلك الدّين كاكه يي؟!... بقلم الأديبة الأردنية : د.سناء الشعلان

الراحل فلك الدين كاكي يي ود.سناء الشعلان
الراحل فلك الدين كاكايي و د.سناء الشعلان

   " لماذا يرحل الطّيبون دائماً دون وداع"؟! سؤال يقترن بنفسي برحيل الصّديق السّامي والمناضل والمفكّر والفيلسوف والسياسي والمتصوّف فلك الدّين كاكه يي. لكن قدر هذا السّؤال أن يظلّ معلّقاً في الصّمت دون أن يجيب عنه فلك الدين على غير عادته المتدفّقة بالعطاء والمعرفة والتّواصل المتواضع الحنون الرؤوم الذي يشبه قسمات وجهه الطّيب الذي لا أعتقد أنّه يعرف كرهاً أو حقداً أو غيرة أو حسداً.

إنّه الموت هو من خطف هذا الرّجل البديع الإنسانيّة، وهرب به بعيداً نحو أرضه السّريّة، كانت آخر كلماته لي هي في دورة العام 2012 لمهرجان كلاويز، حيث أثنى على كلمتي باسم الوفود العربيّة المشاركة في المهرجان، وسألني إن كنتُ قرأت كتابه الأخير"انقلاب روحي" الذي أهداه إليّ في زيارتي الأخيرة إلى أربيل، وما رأيي فيه؟، ثم غادر المكان على عجل يبدو فيه أثر الإعياء والتّعب والمرض الذي ما سمح له أن يمنعه من المشاركة في الفعاليات الثقافيّة والمعرفيّة والإنسانيّة والوطنيّة.

  كنتُ أعتقد حينها أنّني سأراه في يوم آخر من أيام المهرجان أو أنّني سألتقيه كعادتي كلما زرت كردستان في فسحة من الوقت، فأنهل من جمال روحه، وأتفيّأ في ظلال ثقافته وفلسفته وزهده، وأسمع جديد أفكاره وعميق نظرياته، وأحظى بنسخة موقّعة من آخر كتبه، ولكن هذا لم يكن في هذه الزّيارة، وغاب فلك الدين كاكه يي، ثم أوغل في الغياب بأن رحل إلى العالم الآخر دون وداع، وهذا لم يكن من طبعه، فهو الصّديق الطّيب المتواضع الذي لا يمكن أن يترك المكان دون وداع، ولكنّه هذه المرّة قد رحل دون وداع! وكأنّ الطّيبين لا يطيقون الوداع الأبدي، ويفضّلون الرّحيل بصمت دون جلبة، لعلّها فلسفته الزّاهدة التي امتدّت حتى إلى طقوس موته ورحيله.

   بعد اليوم لن يكتب هذا الإنسان جميل الرّوح والعقل والقلب والفكر تحت اسم" الحلاّج" كما اعتاد أن يفعل في الأيام الخوالي من تاريخه الفكري، ولن يدافع بحماس عن الحّلاج الذي يراه شهيداً لدفاعه عن فقراء بغداد الذي شجّعهم على أوّل مظاهرة في شوارع المدينة احتجاجاً على الفقر والجوع والحرمان والاستبداد، ولذلك قتلته الأسباب الاجتماعيّة والسّياسيّة، لا الأسباب الدينيّة أو المذهبيّة كما حاول أعداؤه أن يلبسوا إعدامه بلبوس الزّندقة والكفر والتّطاول على الذّات الإلهيّة، ولن تتسرّب معاناة الشّعب الكردي في "حلاجياته" المنشورة تباعاً في جريدة التآخي.

     وبعد اليوم لن يكتب عاموده الشّهير في جريدة التآخي المعروف بـ" أ.برشنك"، الذي كان يصله بالجمهور الكردي، ويهبه صدى واسعاً من التّقدير والاحترام والمحبّة عند كلّ من يتابعه، وما أكثر متابعيه! وسيترك زاويته اليوميّة(من كلّ زهرة ذرة) التي كتب منها 101 حلقة دون ونيس قابعة في الذاّكرة والفقد، وسيورث عاموده " لكلّ حديث عنوان" لليتم والهجران، ولن يكتب مقالة جديدة فيه.

     بعد اليوم لن يقسّم قلبه وعقله ووقته وروحه وهواه بين واجباته السّياسيّة والوطنيّة وبين العلم والثقافة والفلسفة التي قادته إلى أرفع مراتب السّمو الإنساني، وجعلته الزّاهد دائماً في الحياة والمناصب والمراتب، ليهرب مرّة تلو الأخرى منها، ويخلص إلى حبّه الحقيقي والأكيد، وهو الأدب والثقافة والفلسفة، بعد اليوم لن يكتب قلمه سطراً واحداً جديداً، وعلى المكتبة الإنسانيّة أن تستكفي حزينة بكتبه المؤلّفة بالعربيّة" العلويون الذي قدّم له"، و"موطن النّور"و"احتفالاً بالوجود"و"حلاجيات"و"البيت الزّجاجي للشرق الأوسط"و"لمن تتفتّح الأزهار"و"انقلاب روحي"، وبكتبه المؤلّفة باللغة الكردية:" بيدارى"و"روناهي زردشت" إلى جانب المئات من المقالات والدراسات والبحوث.

     بعد اليوم لن يتصارع مع الفيلسوف الذي كبر في داخله، ويشكو منه قائلاً:

" كبر في الإنسان الفيلسوف، وملك حياتي، كم صارعت الفيلسوف في نفسي كي أكون إنساناً عادياً يرضخ عفوياً للحياة بلا هدف، فما أفلحت حتى اغلّب في الفيلسوف".(حلاحيات:جريدة التآخي، العدد 130 الجمعة 8 أيلول 1967)

   ولأنّني أعرف تماماً كما يعرف كلّ من عرف فلك الدّين كاكه يي عن قرب كم كان إنساناً متواضعاً، يهمل التّفاخر بنفسه، وقلّما يتكلّم عن منجزه وإبداعه وبصماته، فإنّني سأتجاوز عن الوقوف عند هذا الخط العريض والمهم والمشرّف في حياة هذا الصّديق الذي رحل بصمت وسريعاً دون أن أجيبه عن سؤاله الأخير عن كتابه "انقلاب روحي" الذي قلب الكثير من مفاهيمي حول الحياة الفكر والدين والجمال والحق والعدل ، والذي أعدّه بحق من أجمل ما كُتب بلغة جميلة مبسّطة في الفلسفة الحديثة، وهو كتاب يقصد أن يخاطب الجميع دون أن  يتحيّز للنّخبة، ويترك الدّهماء في عماء وجهل، هو كتاب يمثّل كاتبه؛أعني أنّه كتاب يتدثّر بالبساطة والسّهولة ليخفي عمقاً سحيقاً؛ليخاطب كلّ العقول والأفئدة والأرواح، هو دعوة حقيقيّة من فلك الدين كاكه يي لكلّ البشر كي يعيشوا تجربة الخلاص الحقيقي، وهو وفق ما يرى" انقلاب روحي عظيم يشمل سكان الأرض، فيوقظهم من الغفلة والغرور والجشع اللامحدود، فيعيدهم إلى الأصل إلى الطّبيعة"(انقلاب روحي، فلك الدين كاكه يي، ط1، روكسانا، أربيل، كردستان العراق، 2011، ص53)

    أعني أنّني لن أتوقّف عند الحديث عن دوره المشرّف في دفاعه عن قضيته الكرديّة، وعن مساهمته في البيشمركة وتجربته النّضاليّة الطّويلة الزّاخرة، فضلاً عن تجربته العمليّة الرّسمية وزيراً للثقافة في إقليم كردستان لمرحلتين، ودعمه للكتاب أكرداً كانوا أم عرباً، وهو المتحرّر من كلّ العصبيّات والعنصريات، ولن أكرّر رأي كلّ كردي شريف يؤمن بأنّ فلك الدين كاكه يي مناضل كردي شريف وهب حياته ويراعه لقضية الكرد، وقضى حياته مناضلاً في سبيل قضيته وشعبه وأفكاره ومبادئه وتصوّفه الذي لم يفارقه أبداً طوال حياته، فظلّ الأخ الأكبر للجميع.فهذه أمور غنيّة عن الذّكر، معروفة عند الجميع، لا جديد مدهش في ذكرها لمن له إطلالة على المشهد الحضاريّ الكردي.

    لا أسلّم بأنّ فلك الدين كاكه يي بموته قد رحل عن عالمنا، وانقطع عنه بشكل كامل، فتراثه الإبداعي والثقافي والنقدي حيٌّ لا يموت، وروحه العصيّة على الفناء لا تقبل بذلك، ولكنّني أخمّن أنّ روحه الآن هائمة بحريّة وأمان في فضاءات كردستان التي عشقها، أو مزهرة مع زهرة نرجس في الجبال، أو مترنّمة مع نغمة آلة "البُزق" التي كان يحبّها، أخيراً تحقّق له حلمه الملازم، "وهو أن يمشي بيوم مطمئناً" (انقلاب روحي، فلك الدين كاكه يي، ط1، روكسانا، أربيل، كردستان العراق، 2011، ص32) .الآن اكتملت سعادته ورضاه عن تجربته وحياته إذ لطالما قال:"يسعدني أنّني كنتُ قادراً طوال أكثر من أربعين عاماً على الدّفاع عن حرية أيّ شعب وأيّ إنسان في أيّ مكان بالقدر المتاح لي للتعبير، وأنّني كنتُ أستغلُ أيّ فرصة متاحة تعزيز هذه الفكرة، وهي أنّ الحريةّ هي هي في كلّ مكان وزمان، وحقوق الإنسان كذلك شاملة للجميع".(انقلاب روحي، فلك الدين كاكه يي، ط1، روكسانا، أربيل، كردستان العراق، 2011، ص63)

    وعلى الرّغم من قسوة الحياة والتّجربة والنّضال في حياة فلك الدين كاكي يي إلاّ أنّه استطاع أن يعيش حياته وفق فلسفته الخاصّة التي يراها في "اقتناص لحظات اللذة في أمور صغيرة مثل رعاية الأزهار ومشاهدة حركات الطّبيعة والاستماع إلى الموسيقى التي أهواها، ومتابعة المعرفة والعلم (انقلاب روحي، فلك الدين كاكه يي، ط1، روكسانا، أربيل، كردستان العراق، 2011، ص48)

   ولكنّني سأتوقّف عن ملامح إنسانيّة هذا الفيلسوف الزّاهد ومنارات فكره، وهي ملامح معروفة للعامة والخاصة ممّن عرفوه أو جايلوه أو تعاملوا معه، ولا تحتاج إلى الكثير من النّباهة والإلمحيّة لرصدها؛إذ هي وافرة الوضوح، جهرية التجلّي، ولكّنها ملامح جعلته صديقاً عزيزاً على قلبي، أفخر بأنّني قابلته في درب الحياة، وأسعد بأنّني ذقت جمال صحبته، ولو لقصير الوقت، وأشعر في الوقت نفسه بمرارة رحيله؛فأنا أشعر بخسارة فادحة لا تعوّض بخسارتي الشّخصية بموت فلك الدين كاكي يي الذي يُعدّ مكسباً لكلّ إنسان عرفه، ورحيله يفقدني سنداً في درب الحياة؛حيث الطّيبون سنداً لبعضهم في معترك هذا العالم المتوحّش.

   الآن قد رحل صديقي الفيلسوف الزّاهد المتصوّف إلى "موطن النّور"(انظر مقدمة كتاب "موطن النّور"، فلك الدين كاكه يي، ط2، دار ئاراس للطباعة والنشر، أربيل، كردستان العراق، 2010، ص6) وفق تعبيره، وسيدخل في تجربة برزخيّة فريدة تضاف إلى رصيده الفلسفي، وستظلّ آراؤه وكلماته عالقة في وجداني وذاكرتي، وهو من يرى التصوّف نزعة فطريّة عند الإنسان، وهي من تحرره من القيود، وتقوده إلى الحريّة، ومن ثم إلى العشق الإلهي،  الآن سترتوي نفسه العطشى التي لطالما ناجاها قائلا:"إيه يا روحي العطشى المثقلة بالهموم ، وضباب أوهام الأيام، يا روحي المعذبة احترقي في لهيب الحبّّ العنيف، وافني في الحق، كي ينجلي لك الحق ساطعاّ في ضباب هذا الفجر المظلم، حيث السّماء تغطّيها الغيوم الدّاكنات"(حلاجيات، جريدة التآخي، العدد 149 الأربعاء27 أيلول 1967)

    عزائي برحيله دون وداعي أنّني أسخر معه من الموت الذي لم يأته على أيدي الجلادين والمعذّبين في دكك الاعتراف في زنزانات الصّراخ والقهر والعذاب كما كان يتوقّع دائماً، بل جاءه ناعماًً هادئاً في بيته وسط أهله، لم يدهشه الموت أو يباغته؛فهو كان يقول دائماً"ليست هذه هي المرة الأولى التي أعيش فيها مشاعر-على عتبة الموت، عشت دائماً عند حافة القبر، فكّرت أكثر من عشرات المرات في الموت، وناديته بإلحاح، وبعد كلّ تجربة كانت الحياة تبدو لي أحلى وأبهى وأجمل""(حلاجيات، جريدة التآخي، العدد 151 الجمعة 29 أيلول 1967)

  الموت لم يخدع صديقي فلك الدين كاكي يي، بل هو من خدعه دون شكّ، أعرف الآن أنّه سعيد الآن بهذه الخديعة المشروعة، وكلماته تصكّ أذني وهو يقول:" ما أسعدني إذ أموت؛ لا بدّ أنّني أظلّ أشعر بما يدور حولي بعد موتي أيضاً، ها أنذا تحت ألواح التابوت أرى النّاس يتبعونني وينتحبون، وهم يتأسّفون ويتأفّفون، وما أدراهم أنّ سفرتي رائعة وسعيدة، لا يدرون كم يلذّ لي هذا الرّحيل... ما أعذب الموت! ما أسعدني حين يحملني النّاس إلى موطني الأوّل والحقيقي والخالد، ورأيتني أحنّ حنيناً حارّاً طاغياً، وأضحى حنيني يتعاظم، ويبدو لي أن حنيني حقيقي إلى موطني الحقيقي ".(حلاجيات، جريدة التآخي، العدد 150 الخميس28  أيلول 1967)

 

  قابلته لأوّل مرة في فعاليات مهرجان دهوك الثقافي في حضور عملاق ومشاركة كبيرة امتدت لمشاركة 140  شخصيّة ثقافيّة وأدبيّة من جميع أنحاء العالم، بالصّدفة جلستُ إلى جانبه، لم أكن أعرفه حينها، ولم يقدّمه أحدٌ إليّ، أو يعرّفه بي، ولكنّ إنسانيته هي من قاربت بيننا، كانت جلّ المشاركات باللغة الكردية، وقد أدرك بحسّه المرهف أنّني أجلس دون أن أفهم بسبب عدم اتقاني للغة الكردية، وأتوق إلى أن أعرف ما يدور حولي، وعندها تبرّع بأن يترجم لي ما يُقال، كان يترجم لي بمحبّة وكرم، ويهمس لي بما يدور، ويعقّب ويفسّر ما أجهله، واستمر الأمر لأكثر من ساعتين حتى ظهر الجهد عليه، وبعد انتهاء الفعاليات الصّباحيّة كانت المفاجأة الكبرى لي، فهذا الرّجل الوقور الذي كان يُترجم لي بتبرّع شخصي منه، ويعرّفني بكلّ متحدّث، ويفسّر لي ما أغلق على فهمي  لاسيما في التراث الكردي وخصوصية لهجاته، وتفاصيل تاريخه ونضاله هو وزير الثّقافة الكردي الأسبق، ومثقف مشهور، وإعلامي مؤثّر، ومناضل كبير، هكذا قدّمه لي الصّديق الأديب حسن سليفاني، وعجبت كيف لرجل من هذا العيار الثّقيل أن يملك هذا المقدار من التوّاضع والتسامح والمحبّة للنّاس.وكانت أيام المهرجان التي استمرّ فلك الدين كاكه يي يكرمني فيها بأن يترجم لي كلّ ما يدور فيها.

   وعبر الكثير من الجلسات الأدبية التي رافقت مآدب الغداء والعشاء والتجوّل في دهوك وسلاف وقرى الجبال حظيت بسماع هذا الهرم الفلسفي وهو يحدّثني عن الكثير من قضايا الكون والرّب والإنسان والنّضال والجمال.وأبرز أحاديثنا كانت عن العشق الإلهي بعد أن قدّمت مشاركتي في المهرجان بعنوان" نفس أمّارة بالعشق"، وهي مشاركة أثارت جدلاً كبيراً بين الحضور، وفتحت عاصفة من الأسئلة علي صددتها بقولي:" ليس لكم أن تسألوا أين أنا في هذا النّص، أهي قصّتي أم قصة الآخرين، أنا في هذا النّص، وليس في غيره، وأنا لستُ فيه أيضاً".

  في اليوم الثاني عاد يحمل إليّ بنفسه نسخة من كلّ كتبه الصّادرة باستثناء كتابه الأخير" انقلاب روحي"الذي لم يكن قد صدر بعد، كتب إهداء لي بخطّه الهادئ الواضح على كلّ نسخة وأهداها لي، وطفقنا نتناقش في دلالات عناوين كتبه التي رأيتها مثيرة للاهتمام، وأدركت أخيراً أنّ هذا الرّجل المتواضع يحبّ الكلمة، ويعشق الحرف، وقد وهب نفسه للثقافة والقلم والكتابة والملاحظة والتأمّل، وفي ذلك كان يقول دائماً:" كلمتي وحدها تدري ذلك، وهي تزور بيوتاً لم أزرها، تقتحم أسواراً عجيبة، وتطير، وتطير، لتحطّ على مكتب أنيق أو في جيب سترة، فتصافح وجوهاً طيبة وديعة طالما أحببتها، وتضاحك عيوناً شتى...ثم تقبّل بواطن أكفّ حنون وخواتم وأسورة"موطن النّور"، فلك الدين كاكه يي، ط2، دار ئاراس للطباعة والنشر، أربيل، كردستان العراق، 2010، ص277)

       وفي هذه المجاورة الأدبية والإنسانيّة لفلك الدين كاكي يي، وهي مجاورة لذيذة قدرية وهبتها الصّدف لي، ونعم المجاورة كانت هي، رأيت كيف يكون الإنسان عملاقاً في تواضعه ومحبته، رأيت كيف يتجرّد من ألقابه الرّسميّة، ويزهد بأعلى المراتب، ويتحدّث بتواضع، ويسمع كلّ من حوله باهتمام، وكأنّه أقل النّاس مكانة وعلماً وحضوراً ومنزلة وثقافة، وتكون المفاجأة أنّ هذا الصّامت هو بحر هادر إن تحدّث، وكنز معرفي لمن أراد أن يقترب منه، وأن يغرف منه بكلّ أريحيّة حتى يرتوي، رأيته دون غيره من المسؤولين يكتفي بمرافق واحد وسائق، ولا يبالي حتى وإن جاء إلى الفعاليات ماشياً دون مرافق دون أيّ رفاهيّة أو بهرجة أو أبّهة، وهو يلبس لباسه الكرديّ الذي يعتزّ به في كلّ مكان، ويدعو الجيل الجديد إلى لبسه والتمسّك به.

  رأيته كيف يعامل الجميع كباراً وصغاراً ضيوفاً وأهلاً عرباً وكرداً بمحبّة واحترام وتقدير، وذاكرته المشحونة بالأسماء والكتب والذّكريات والتفاصيل تجعله يدير حديثاً مهمّاً مع كلّ من حوله من أناس، وعندما يكون ضيفاً في أيّ زيارة أو دعوة كدعوة السيد حسين سليفاني لبعض ضيوف المهرجان إلى بيته الجبلي بمعيّته يكون الضّيف الأكثر لطفاً، والأخفّ ظلاً، والأقرب إلى نفوس الجميع بحديثه العذب، وذكرياته المشحونة بالنّضال وألم الشّعب الكردي، وعندما يحين دور الضّحك والمزاح فهو صاحب أصدق ضحكة تجلجل في المكان، وتمتدّ من عرض وجهه لتصل إلى كلّ قلب من قلوب الحاضرين لتدغدغ الجميع بالحنان الصّادق والودّ الوافر والأنس الكامل.

  رافقنا بكلّ تواضع إلى نزهة جماعيّة لكلّ الوفود والضيوف المشاركين في المهرجان إلى "كهف آينشكي" في قرية " آينشكي" العالقة هناك في أجمل جبال إقليم كردستان، جلس معنا بكلّ تواضع، كان آخر من أكل اهتماماً بالضيوف، وطفق بعدها يعرّفنا بالمكان، ويسرد علينا تاريخه النّضالي حيث كان هذا المكان مستشفى لجرحى أبطال البيشمركة، وكان في فترة ما قبلها ملجأً للأرمن الهاربين من مذابح العثمانيين لهم، ثم طوّف معنا في أنحاء الكهف، يعرّفنا على تلك الفتحة العلويّة في سقف المغارة التي أحدثها مقاتلو البيشمركة ليوصلوا الذّخيرة والمؤنة إلى المقاتلين الجرحى، كذلك استعرض معنا الحيوانات المحنّطة في جنبات الكهف بجانب الألبسة الفلكلوريّة الكردية، وتوقّف طويلاً عند ماعز جبليّة ضخمة، وقال ضاحكاً:إنّه يفضّل الماعز الجبلي على سائر الحيوانات.وعند انتهاء هذه الجولة الجبليّة الجميلة ودّعنا فرداً فرداً، ثم ذهب بعيداً مع سائقه من رجال البيشمركة الذي يضاحكه ويحدّثه كأخ أو صديق له.

    وجاد القدر عليّ بالكثير من الزّيارات الأدبية والثقافيّة الرّسمية إلى إقليم كردستان، وفي كلّ مرة كنتُ أحظى بمقابلة هذا الصّديق الحميم الذي وهبني كلّ كتبه المكتوبة بالعربيّة، وكان يدخل معي في حوارات طويلّة في شأن ما يكتب وما أكتب.وأكثر ما أدهشني بعد أن قرأت كتبه أنّه يملك لغة عربية جزلة جميلة مطواعة لها لاستيعاب كلّ أفكاره وتصوّفه وفلسفته، ودائماً كنتُ أقول إنّ ذلك الرّجل حتى في الحديث عن قدرته اللغويّة يتحدّث بتواضع، ولكن من يقرأ ما يكتب يُدهش من امتلاكه لناصية اللغة العربيّة، ودائماً كنتُ أريد أن أسأله أنّى له هذه الفصاحة في اللغة العربيّة، لكنّني كنتُ أنسى هذا السؤال في كلّ مرة ألقاه فيها.

   ولغته أقرب ما تكون في كثير من الأحيان إلى الشّعر، ولا يكتبُ بلغة اعتياديّة، بل يستثمر كلّ ثقافته العملاقة في سبيل بناء الشّكل اللغوي لكتاباته، وفي ذلك يقول أحمد محمد أمين:"يستقدم كاكه يي النّصوص المقدسة لا على سبيل الاستعارة والنّقل، بل يلامس روحها ومضامينها الإنسانيّة والفلسفيّة".(قراءة في كتاب موطن النّور، أحمد محمد أمين، ط1، مطبعة روزهه لات، أربيل، إقليم كردستان، ص30).وهو في لغته يلجأ إلى الشّطحات التي يجسّدها في مقالات أو نصوص يسميّها غالباً لوحات، "وهذه الشّطحات هي محاولة لتمزيق أغلال الكلمة واللغة والتقاليد والواقع، وهي تعبير عن رغبة داخليّة عارمة في التّحرّر من كلّ شيء والخروج عارياً أمام الكون والشّمس".  (تقديم الطّبعة الأولى من كتاب"موطن النّور"، فلك الدين كاكه يي، 2009 بقلم فهمي كاكه يي).

    ومن يعرف حياة فلك الدين كاكه يي، ومقدار معاناته فيها، وهي معاناة تجسّد معاناة الكردي في إحقاق حقّه الذي طال اغتصابه يعرف أنّ لغته هي امتداد حقيقي لهذه التّجربة، كما يدرك أنّ"عبارات مقالاته هي خلاصات موقفه من الحياة والمعاني والأشياء والموجودات، لكنّها خلاصات تستند إلى قلق واغتراب للذات والرّوح المشحونتين بطاقة البحث التأملي والوجودي" (موطن النّور لكاكائي:عن اللون الذي لا لون له، جمال كريم، المدى الثقافي، جريدة المدى اليومية، بغداد، العراق)

      وبعد أيام من عودتي إلى الأردن بعد انقضاء فعاليات مهرجان دهوك أرسل لي مقالة كتبها ونشرها في جريدة التآخي ضمن عاموده المسمّى" لكلّ حديث عنوان" حول مشاركتي في مهرجان دهوك، وقال فيها ممّا قال تحت عنوان:" الطّبيعة الأمّارة بالعشق":(النّفس الأمّارة بالعشق) عبارة سمعتها للمرة الأولى من الأديبة الأردنية المبدعة د.سناء كامل شعلان قدّمتها كقصة قصيرة في مهرجان دهوك.استهلّت تلك العبارة الموحية لأكتب عن الطّبيعة الأمّارة بالعشق، تحدّثت الأديبة الأردنية عن حالات العشق وتحولاتها وانقلاباتها الدّاهمة، وقالت الكثير من التّفاصيل العلنيّة والسرية مابين السّطور عن العشق، إلاّ أنّها قالت في نهاية القصة إنّها لم تعشق أبداً، ولا تعرف مذاق العشق، وقالت إنّها قد لا تحصل على العشق، فإذا ما توقّفت يوماً عن الكتابة فاعلموا أنّني أصبحت عاشقة.لم يصدّقها كثيرون منّا، نحن الحاضرون في المهرجان، ولم يفهمها الكثيرون، ولا أزعم أنّني فهمتها، واختصرت رأيي عنها أنّها عاشقة للوجود، وقالت في نفسي:هي تريد التمتّع عميقاً بكلّ لحظات الوجود، فهي تعيش حالة استثنائية من العشق الأبدي.ولا أزعم ثانية أنّني فهمتها، فهي قالت:اعتبروها قصة، أيّة قصة، أو سيرة ذاتيّة، أو حكايتي أو أيّ شيء آخر، هي عصيّة على الفهم والإدراك.وتلك بدايات العشق الملتهب.فهي ذات نفس أمّارة بالعشق، وليس بالسّوء أو أية خصلة أخرى، ولماذا الإمارة بالعشق فلأنّها تريد أو تتمنّى من أغوار نفسها ووعيها أن يكون كيانها غارقاً في العشق الأبدي.وهذه الطّبيعة التي كنتُ أراها أمّارة بالعشق لي أنا الإنسان، ونحن البشر، إذ بها تجفل وتتمرد على ذاتها، وعلينا يتسرّب منها العشق، وتتركنا دون حبّ وعشق ووجود.

    كنّا ننام على سرائر من خيالات مطمئنة بأنّ الطّبيعة تظلّ مأوى للعشق، ولن تخذلنا، ترى هل نحن الذين خذلناها فتخلّت هي عنّا؟هل ابتعدنا عن جوهرنا الحقيقي، واستسلمنا للأعراض والمظاهر الخادعة فتركتنا هي نواصل السّبات على هدهدة الأحلام السّابقة، وكيف تتخلّى الطّبيعة الأمّارة بالعشق عن هذا الحبّ العارم"".لكلّ حديث عنوان، الطّبيعة الأمّارة بالعشق، جريدة التآخي، الأربعاء 11آب 2010)

    هذه المقالة القصيرة كانت فاتحة حديث طويل بيننا في كلّ لقاءاتنا الأدبيّة حول العشق الإلهي، الذي كان يرى أنّه عنصر من عناصر الطّبيعة بعد الماء والتراب والهواء والنّار، نقلاً عمّا يقوله الفيلسوف الكردي الملا الجزيري، وهما يريان أنّ هذا العشق بمثابة الجاذبيّة التي تحفظ تماسك العناصر الطّبيعيّة مع بعضها(انظر المزيد من آرائه حول هذا الأمر في كتابه انقلاب روحي، فلك الدين كاكه يي، ط1، روكسانا، أربيل، كردستان العراق، 2011، ص29)

   وهذا الحديث قادني إلى أن أقرأ بشكل مقتضب عن الكاكائيّة التي يتبعها فلك الدين كاكه يي، وهي المسّماة بـ"أهل الحق" أو الـ "يارسان"، وهي من الطّوائف الدّينية العريقة في كردستان، وقرأت أكثر عن الصوفيّة لأكون في أقرب نقاط الفهم ممّا كتب في كتبه لاسيما في كتابه الأخير الذي أعدّه رائعته" انقلاب روحي"، وأدركت أنّ هذا الصّوفي المسالم الخيّر كابد تجارب روحيّة كبيرة ومتعدّدة في درب روحانياته، وفي ذلك قال:" لستُ أدري كيف ومتى ولماذا وجدت نفسي مجذوباً انجذاب المجانين والعشاق نحو الاستغراق في هذا الطّريق فإذا بي أرى ملايين النّاس ومئات الحكماء المبدعين ساروا عبر التاريخ ويسيرون في نفس الطّريق""موطن النّور"، فلك الدين كاكه يي، ط2، دار ئاراس للطباعة والنشر، أربيل، كردستان العراق، 2010، ص15)

    ثم وجدت نفسي أؤمن بـ "العنصر الخامس"، وهو عنصر العشق الإلهي، وأتأثّر به جدّاً، وأؤمن بطاقته، وأولّد منه فكرة طاقة البعد الخامس، وهي طاقة الحبّ، وأجعلها محور روايتي في الخيال العلمي" أعشقني".

    لقد نالت هذه الرّواية عدّة جوائز، وطارت إلى كلّ مكان، ووصلت إلى أيدي معظم أصدقائي في كلّ الدّنيا، إلاّ نسخة فلك الدين كاكه يي، فقد ظلّت قابعة في درج مكتبي تنتظر أقرب فرصة لتصل إليه، وهي موقّعة مني تحت عبارة "إلى المفكّر الكبير والصّديق العزيز فلك الدين كاكه يي..."، على أمل لقاء به قريب، ولكن انتظارها هذه المرّة سيطول؛فاللقاء القادم به لن يتمّ إلاّ في أرض النّور والحقّ عندما يشاء خالقنا ذو الجلالة والإكرام، وحتى ذلك الوقت سأشتاق دائماً إلى صديقي الفيلسوف الطّيب فلك الدين كاكي، وأتساءل دون إجابة: لماذا يرحل الطّيبون دائماً دون وداع؟!! وأقرأ هذه الليلة على روحه كتابه "حلاجيات يقظة متوهّجة في حضور الحلاّج"؛فأنا أعرف أنّ روحه حبيسة هذا الكتاب، وأنّ خلاصه لا يكون إلاّ بنصوصه.وأمّا أنا فعندما أقرأ هذا الكتاب أحسّ بروحه الطّاهرة ترفرف على المكان، وتبتسم لي من مكان علي بعيد مشرق، وأكفّ عن سؤالي المعاتب العاجز:"لماذا يرحل الطّيبون دائماً دون وداع؟!! وأترك نفسي تتمتع بضحكاته النّابعة من أعماق وجدانه وهو يقول:"الإنسان عظيم وقوي عظمة خياله وقوته فبقدر ما يصله الخيال من عمق وخصب تتوسّع وتزدهر طاقات الإنسان"".(حلاجيات، جريدة التآخي، العدد 198 الأربعاء15 تشرين الثاني 1967)، وقد كان صديقي الصّوفي الطّيب فلك الدين كاكه يي عظيماً بحق.

 

 

selenapollo@hotmail.com