Share |

مجموعة قصائد للشاعر: هوشنك أوسي

 

في مديح الأرملة

 

كصندوق بريدٍ مفتوحٍ أسفلهُ، إلى جوار بابٍ مغلق، منذُ ألف عام،

كلَّما وضع فيه ساعي بريد رسالة، تسقط، فتتلقَّفها الرّيح.

قلبي عربةٌ تنقلُ الأعنابَ والتّينَ من الكروم إلى معاصرٍ الخمر.

عربةٌ تجرّها عشرةُ أفراس، كلُّ واحدةٍ؛ تصولُ في اتجاهٍ مخالف للأخرى.

ألا لعنةُ العشقِ عليه؛ الظمآنُ إلى لقياكِ، كنهرٍ أرعنٍ إلى حتفهِ يلهثُ،

وذئبٍ على اكتمالِ بدركِ يتوكَّلُ.

قلبي؛ تيهٌ حنونٌ، على نونَي نهديك، عَقدَ عزمهُ،

وفي سحرِ لُجينِكِ يتوغَّلُ.

ليلُ، مخمورٌ، كشاعرٍ لا يريدُ التَّوبةَ مِن فُحشِهِ،

سائرًا إلى الجحيم، بثقةِ مَن لم يشركِ بسجودهِ لغير ربّه أحدا،

ألا ترينهُ رافعًا رمحه، يُرتّلُ الدروبَ إليكِ ترتيلا؟

لا يدَّخرُ في حبِّكِ موتًا، أو سبيلا.

ليسَ يهمُّه إن كان قاتلاً أو قتيلا.

***

في ما مضى، كُنتُ بابًا، كُلَّما فتحتهُ امرأة، أغلقتهُ أخرى على نفسها.

ونافذةً كُلَّما شرَّعتها امرأةٌ على ليلِ القصيد،

أغلقتها أخرى، على فضيحةٍ جديدةٍ للمجاز.

فجأةً، وجدتُني حربًا خاضتها امرأةٌ على أخرى،

اختلفتا على قصيدةٍ كتبتُها، واتّفقتا على أنني عاشق.

كُنتُ بئرًا سحيقًا، ردمتهُ نساءٌ كثيراتٌ بأسرارهنَّ.

بئرٌ فقدَ القدرةَ على النُّطقِ، وتحوَّلَ إلى مشعوذٍ،

لا يحلو لهُ كتابةَ التَّمائم إلاَّ تحت ثنيةِ نهودِ النّساء.

والآن، ما زلتُ كوخًا تسكنهُ ألفُ امرأةٍ مِن ألفي قبيلة.

كوخٌ لم يتبقَّ منهُ شيء، إلاَّ بابهُ ونافذتهُ المكسورة.

***

على أحدنا إطفاءُ هذا الطّريق المتهوّرِ الذي نسلكهُ، وثنيهُ عن المغادرة.

وجودهُ في قواميسِ ذاكرتينا كنز،

ورحيله؛ جلاَّدٌ يقودُ نصوصنا إلى أعواد المشانق.

طريقٌ فرشهُ لنا شياطينُ العشقِ وسلاطينهُ بنواياهم اللئيمة

كي نعبرَ مِن جحيمٍ دائمٍ في القصائد

إلى جحيمٍ غائمٍ يجوبُ الأزمنةَ والأمكنةَ، مِن دونِ رحمة.

على أحدنا إرشادُ الخيالِ إلى النّهاية العمياءِ التي ضلَّت سبيلها

وتعثّرت، واصطدمت ببداياتٍ كثيرة.

البداياتُ مسكينةٌ، لا تحتملُ كيدَ وكمائنَ النهاياتِ اللعينة.

النهايةُ ليست دومًا أستاذًا حكيمًا،

والبداية لبست دائمًا تلميذةً مشاغبة.

عليَّ تعويدكِ على غيابي، ليس لتتأكَّدي مِن حُبّي،

ولا كي تعيدي ترتيب أقداركِ كما ترتبين ملابسكِ الداخليّة في حقائب سفرك،

بل لأن عشقي يأمرني بذلك.

على أحدنا أن ينهي هذه القصيدة العليلة، ويشفي غليلها

بمزيد من الطّيش والمراهقة التي لا تريد أن تنتهي.

***

داهمَ رمدُ العشق عينَيَّ مُتأخِّرًا،

بعدَ صعودِ عطرِ الخُبزِ مِن تنانيرِ القرية، آناء الفجر، بقليل.

أوصاني زهرُ اللوز، أن تقطَّرَ امرأةٌ رَمَّلتْها فصولها الخمسُ باكرًا،

قطرَتي حليب من نهديها في عينَي.

أشارَ زهرُ الكرز، أن تمسحَ شاعرةٌ رمَّلتها دواوينها باكرًا،

بلعابها على خفنَي.

نصحني حاخام متقاعد بوضع القليل من رمادِ سجائركِ فيهما،

والتوجُّه نحو كوكب الزهرة، صباحَ مساء.

فعلتُ ذلك، فتحوّل الرَّمدُ إلى عمى.

31/03/2022

---------

محل أدوات مستعملة

 

لم يعدْ للدّروبِ ما تقولهُ لكِ.

أنفقتْ كلَّ مدَّخراتها من الذّكريات في إقناع ملابسكِ الدَّاخليّة

كي تغادرَ قصائدَ المشرَّدين، وفَشَلَتْ.

الدَّربُ الواصلُ بين الصَّعلكة والمَجد، اتَّخذ من أعقاب سجائرك فراشًا ووسادةً،

ونامَ في حرير الأوهام.

الطَّريقُ التي شقَّها النِّسيانُ في غابة استوائيّة،

غدت رسَّامًا يحاولُ رسمك بألوانِ الاحتلام.

الشَّارعُ الذي اتَّخذ لنفسه ألفَ اسمٍ مستعار،

كي يتهرَّب مِن عقابِ التلصُّص عليكِ،

ما يزالُ يمنّي نفسهُ أن يكون الخطَّ الواصلَ الفاصلَ بين نهديك، ولو للحظة.

الزُّقاقُ المؤدّي من حانةِ المجازِ التي تعملين فيها راقصة تعرَّي،

المفضي إلى المعبد الذي تبيتينَ على سطحهِ،

ذلك الزُّقاقُ المسكينُ، أقلعَ عن التدخين، هجرَ الشَّعر، استغنى عن الاستمناء،

أحرقَ الرَّسائل التي كتبها لكِ، ولَعَنَ اللحظةَ التي جمعتهُ بكِ، وانتحر.

لم يعدْ للدّروبِ ما تقوله لك.

وما زال لديَ الكثير ممّا أقولهُ عن سُعالك المُدوِّي في صدري،

وارتجاج نهديك في السُّوتيان وخارجه،

وعن دخَّانِ سجائركِ الذي يديرُ شؤونَ المُصادفات والقضاء والقدر.

لكن، لم يتبقَّ من عمري إلاَّ القليلُ مِن التّهورِ وجسارةِ المراهق.

***

بسببكِ، خاصمتني أيَّامي الماضية.

ليس لأنَّني هجرتُها إليكِ، بل لأنَّني لم آخذكِ إليها.

طمَّاعةٌ، لئيمةٌ، شغوفةٌ ونهمةٌ، أيّامي الماضية.

تطمحُ إلى ابتلاعكِ كغول.

فخورةٌ جدًّا بآثام عشيقاتي، ملوَّثةٌ جدًّا بآلامهن،

وبريئةٌ جدًّا، مِنِّي.

حنونةٌ، نزيهةٌ ووفيّةٌ، مستعدِّةٌ للمقامرةِ بنفسها على طاولةِ إرضائك، أيَّامي الماضية.

أمَّا أيامي الآتية، لحوحةٌ ملعونة؛ لا تتيحُ لي فرصةَ تعريفها بكِ.

لديها مِن الغرورِ، الطَّيش والثِّقة ما يكفي لإحراقكِ معي

في أحداقِ العشقِ وأفئدتهِ، ألفَ مرَّة.

***

قلبي أرضٌ خصيبة، وطيفكِ اللعين، دودةٌ ودودةٌ،

تسرَّبت إليهِ، تسرُّ المورفينِ في الجسد.

تحرثهُ شِعرًا وحكايات، تدسُّ فيهِ عسلَ المجاز، وسمومهُ.

قلبي شحّاذٌ مسكين، لا يشبع، وجمالكِ لعنة.

صوتكِ لعنة.

حنانكِ لعنة، وغضبكِ.

نصوصكِ، صوركِ، رائحةُ تعرُّقكِ،

غروركِ، تمنّعكِ، بُخلُكِ، كرمُكِ...

لعناتُ الدروبِ على القلوب.

قلبي، كمحلٍّ للأدوات المستعملة،

يجدِّدهُ العشق، كلَّ لحظة، يقول لكِ:

كنتُ ولم أكنْ.

نهدكِ يلخّصُ أسفارَ الأقمارَ في طاسة لين، تنظرُ إلى العالم بعين كرزة.

يلقّنُني براهينهُ؛ على أن العسلَ أحدُ تلامذتهِ الفاشلين.

يا ملعونةَ العينين والشَّفتين والنَّهدين،

انتظرتكِ كسماءٍ حائرةٍ تنتظرُ عبوركِ،

كحربٍ سعيدةٍ بتأجيلِ موعدِ اندلاعها للمرّة السابعة،

كغيمةٍ مشغولةٍ، حقنها تاريخُ مولدها بالنّدم والأحزان،

لا تجد متّسعًا لتبكي،

كركوة قهوةٍ، منسيةٍ على نار،

فارت على القصائدِ والمُدن، انتظركِ.

أينَ كنتِ، كلَّ هذا الموت؟!

وأين كُنتُ، ولم أكنْ.

 25/03/2022

-----

صباح ومساء الورد على ركبتيكِ

 

صباح الورد على عينيك اللتين تنظران إليَّ كحقلي قمحٍ

أينعت سنابلهُ، ينتظرُ "حزيران"ـي، والحصاد.

صباحُ عينيكِ على الورد النابت في قلوب عشّاقكِ،

وشوارعهم وجدرانهم "الافتراضيّة" المتحاربة؛ تتقاذفُ بالنصوص والقصائد المكتوبة عنكِ.

صباح الورد على نهديكِ، النائمين كأرنبين في حضني،

المستيقظين كحمامتين في القصائد،

تنقران قمحَ الاشتهاء ولوعةِ الفقدِ والضّياع والتردد.

وصباحُ نهديكِ عليَّ وحدي، لا شريكَ لي،

في الحجِّ والطواف، في العضِّ والقِطافِ، والتهوِّرِ والانجرافِ

نحو سُرَّتكِ والخصر،

حتّى تساقطِ النيازكِ والشهب، من دمي في دمكِ.

نهداكِ اللذان أباحا "دمي في الأشهر الحُرُمِ"،

صباحُ الشِّعرِ عليهما ومساؤهُ.

***

لو كان في مقدوري، لأزحتُ القمرَ عن منازلهِ المقدّرة،

كي يتوّقف عن إلحاق الأذى بمزاجكِ، ورشقكِ ببروق الألم، ورعودِ الاكتئاب.

ذلك القمرُ الكلبُ، ابنُ الحرامِ، يحاولُ إفسادَ دمكِ،

والتلاعبَ بكِ كلَّ شهرِ، ويبعدكِ عنّي،

لو كان في مقدوري، لقتلتُه، وأرحتكِ؛

من خطوبهِ والشحوب، من دنسهِ والندوب.

لَكمْ أحتقرهُ، ذلكَ القمرُ العرصُ؛ كَلبُ أوجاعِ النّساء،

وكُحلُ مسرّاتهم والأسرار.

سأخلعهُ من عرشهِ، واجعله فصّ خاتمكِ،

أو شالاً يواري ركبتيكِ المُقمرتين، عن أعين الذئاب.

لن أبقى طويلاً في تلك اللحظةِ المليئة بالسنوات المحذوفة من عمري،

سأغادرُها إلى لحظةٍ مليئة بالسنوات المحذوفة من عمركِ.

فهل تأتين معي؟ أم لديكِ موعد مع ذئبٍ آخر؟

***

هذا المساء،

ألغيتُ موعدًا مع عاصفةٍ تونسيّة،

وآخرَ مع مطرٍ مصري

أجّلتُ مواعدًا مع غابةٍ فلسطينيّة،

وآخرَ مع عسلٍ لبناني،

وأبقيت على موعدي مع العرس الكردي المُزلزِل.

فتعالي يا مجهولةَ الدم والخرائط،

يدُكِ في يدي، والليلُ نولُ الحكايات.

يدُكُ في يدي، والطريقُ نايُ النازحات

من قلوبٍ حجرٍ إلى قلوب الشّجر.

يدكِ في يدي، والذّاكرةُ المسمومة، جحيمُ البدايات.

ضعي رأسكِ على كتفي، وغيبي عن العالمين.

كتفي، شرفتكِ المطلّةِ عليكِ.

لا حرجَ عليكِ، إن فعلتِ،

وإن لم تفعلي، عليكِ لعنةُ النّهايات.

17/02/2022

----

جِدَّا

يودُّ التَّأمُّلُ الاعتذارَ مِن صَمِتِكِ.

اغترَّ بنفسهِ؛ كطاووسٍ انتزعَ ريشةً مِن جسدهِ

وكتبَ بها كلامًا، ليس لكِ، لكنهُ لكِ.

أخذته العزِّةُ بآثامِ الشّوق، فانزلق.

مِن مُنحدرِ الحبِّ، نحوَ سحيقِ الافتعال، وخدرِ الاحتلام، انزلق.

فوقَ جليدِ الطُّغيان وأوهام التملُّكِ، انزلق،

فأحرقَ ريشتهُ، واحترق.

ما مِن أحدٍ أخبرَ التَّأمُّلَ؛ إنَّ العشق انزلاق،

لا محيد عنهُ، ولا رادّ له.

انزلاقٌ مجيدٌ؛ بألف عين، وألف يد، وألف قلب، وألف روح،

وسبعة آلافِ اسم.

لكنَه يبقى أجمل المزالق و"أحلى الأقدار".

أقبلي اعتذارهُ الشَّديد.

التَّأمُّلُ إنْ زادْ، طاش بهِ الاغتراب.

وإنْ نقصْ، عاش، وهامَ بهِ الاحتراب.

***

ارتدى التَّأمُّل ثيابي، اعتمرَ قبَّعتي، وضعَ نظّارتي،

وتعطَّرَ بنفسِ العطرِ الذي أضعهُ، حين أزورك في منامكِ والقصائد.

ها هو يقلِّدُ مشيتي في الطُّرقات،

جلستي في المقاهي، كلامي عن النِّساء وأعسالهن،

ينتحلُ سعالي، طريقتي في الكتابة،

ومذهبي في توزيع القبلات، مُقتربًا مِنكِ.

ها هو واقفٌ أمام غرفةِ نومكِ.

يطرقُ بابكِ، كَذَكَرِ النّحلِ طارقًا باب ملكتهِ.

ائذني له بالدخول، واقبلي اعتذارهُ،

وإلاَّ انهارَ عواصفَ ورعودا.

***

هل أغضبتك قصيدتي التي كتبتُها يومَ أمس، يا حلوتي؟

ــ جِدًَّا!

هل أعجبتكِ، يا أميرتي؟

ــ جِدًَّا!

تلكَ القصيدةُ الملعونة، أعجبت وأغضبت الكثير من الرجال.

كلُّ امرأةٍ قرأتها، خامرها ظنٌّ أنني كتبتها لها.

لذا؛ وجبَ عليَّ الاعتذارُ منكِ،

كشيخٍ من التأمُّلِ وحُمَّى الاشتياق،

وعليهِ أوقّع.

بالقُبلاتِ، اللمسات، الهمساتِ، والنظراتِ، أوقِّع.

بـ"هائي" المضمومةِ إلى "نونكِ" المكسورةِ، أوقّع، جزيلاً جِدًَّا.

***

كاتبني بحرُ الشّمالِ مهددًا:

مَنْ تظنُّ نفسكَ، يا تُرجمانَ عطورِ النّساء؟!

الحياةُ ليست حلبةَ مصارعة، ولستَ ثورًا أو مصارعًا.

أتظنُّ نفسكَ صقرًا فقست عنه بيضةُ المجاز؟

أم قبيلةً من العشّاق، دائمةُ التّرحال في الأوجاع والخيبات؟!

قلبكَ سريرٌ لشخصين، تتعاقبُ عليه العشيقات.

فندقٌ قديم بغرفةٍ واحدة، تقيم فيهِ شعوبٌ من الورد والسكاكين والملح.

قلبكَ قلبُ الحوتِ الأزرق، ملاحقًا أنثاه.

وقلبُ أيلٍ؛ نوى الصلاةَ، وكتابةَ الشّعر على سفوح جبال الكرد.

قلبكُ مخبرةُ نسوة يخبئن بين نهودهنَّ ذاكرةَ نسائمكَ، أصابعكَ، وأسنانكَ.

قلبكَ حانةٌ يلجأ إليها السحرةُ، المشعوذون، قطّاع الطرق، الأنبياء، وعتاة القتلةِ والسَّفلة والشُّعراء.

آن أنْ تخلعهُ، وتمنحهُ لي.

لا قلب لي، فبأيّ وجهٍ سأقابل غزالتي.

توقّفْ عن إثارة حيرةِ النّساءِ، وغيرةِ الأكباش.

اخلعْ قلبكَ، وإلاَّ حلَّتْ عليكَ لعنتي.

لم يكنْ يشغل بالي شيء، سوى التّبغ الذي زرعته تحت إبطيكِ.

نفثتُ في وجهِ بحر الشّمال، دخّان سيجارتي،

وغادرت هذه القصيدةِ، إليكِ.

11/02/2022

أوستند – بلجيكا

 

من صفحة الكاتب على الفيسبوك