
في صمتٍ مهيبٍ يليقُ برحيل الشعراء، وفي غربةٍ كانت لها وطناً بديلاً ومنفىً قاسياً في آنٍ معاً، ترجّلت الشاعرة الكوردية مزكين حسكو (1973 - 2025)، عن صهوة الحياة، بعد صراعٍ طويل وشجاع مع مرضٍ عضالٍ لم ينل من إرادتها ولا من وهج إبداعها. رحلت تاركةً وراءها فضاءً من القصائد، وبستاناً من الحروف التي زرعتها في تربة اللغة الكوردية بوفاءٍ نادر، لتبقى جذورها ممتدةً بين الوطن والمنفى، شاهدةً على روحٍ لم يكسرها الألم ولم تُطفئ وهجها المسافات.
اليوم، يقف الأدب الكوردي حزيناً، مرتدياً سواد الحبر، ليكتب مرثيّة لقامةٍ أدبية شامخة، وروحٍ إنسانيةٍ شفيفة، جعلت من الشعر قلعتها الأخيرة، ومن الكلمة هويتها التي لا تغيب.
من شلهوميّة إلى ألمانيا
وُلدت مزكين حسكو عام 1973 في قرية شلهوميّة التابعة لبلدة تربه سبي في غرب كوردستان (سوريا). هناك، بين تلال القامشلي وعبق ترابها، استقت أولى أنفاس الإلهام. كانت طفلةً تركض في حقولٍ ستصبح فيما بعد مفردات قصائدها، وتستمع إلى حكايات الجدّات التي شكّلت وعيها الأول. الطبيعة الكوردية بكل تفاصيلها، من الغزلان والرياحين إلى صلابة الجبال وفساحة السهول الممتدة، حفرت في ذاكرتها أخاديد عميقة ستنزف شعراً وجمالاً فيما بعد.
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حملت مزكين ذاكرتها وهاجرت إلى ألمانيا، لتبدأ فصلاً جديداً من حياتها في المنفى. لكن الغربة، بدلاً من أن تنزع عنها هويتها، زادتها تمسكاً بها. اختارت بوعيٍ وإصرار أن تكون لغتها الكوردية الأم هي لسانها الإبداعي الوحيد، رافضةً أي مساومة، ومؤمنةً بأن اللغة ليست أداة تواصل فحسب، بل هي الوطن الذي يُحمل في الروح. وكما قالت في إحدى كتاباتها: "الكوردية هي ذاكرتي التي لا تغرق". لم تكتفِ بذلك، بل زرعت هذه اللغة في أرواح أبنائها، فأرضعتهم الكوردية مع حليبها، ليكونوا امتداداً لجذورٍ رفضت أن تقتلعها رياح الغربة.
وطنٌ يُبنى بالكلمات
تُعتبر مزكين حسكو صوتاً مميزاً في الشعر الكوردي الحديث. لغتها بسيطة وعميقة في آن، لغةٌ تحتفظ بعبق الأمهات والأجداد، لكنها قادرة على التحليق في فضاءات الحداثة والتجريب. في شعرها، تتحول الطبيعة إلى شاهدٍ على المأساة والأمل، وتصبح عناصرها رموزاً تحمل هموم الإنسان الكوردي. تجمع في قصائدها بين سواد المعاناة وبياض الأمل، فتخلق لوحاتٍ شعرية تفيض بالحياة رغم الألم.
ومن أبرز أمثلة شعرها قصيدتها الشهيرة "ملائكة الأرض" (Milyaketên Erdê)، التي اختارتها مكتبة فرانكفورت الدولية كواحدة من أفضل قصائد الشعر الحديث، حيث ترسم لوحة سريالية للأمل المنبعث من رماد الحرب: "أطفالٌ يبنون قصوراً من أشلاء الحرب.. ويعلقون على جدران الدمار قلوباً من قوس قزح".
وفي قصيدتها عن فاجعة حلبجة، تحوّل المأساة إلى رمز للخلود والإنبعاث كما نرى في المقطع الذي ترجمه إبراهيم محمود:
"من داخل شقوق حذاء طفل مجهول الاسم
كل تموز
زهرة عباد الشمس
تبحث عن وجودها…؟!
صباح الخير
أيا زهرة عباد شمس مجنونة وشرسة
أيا زهرة عباد شمس حديقة طيور العنقاء..!!!"
صوتٌ لا يمحوه الغياب
لم تكن تجربة مزكين حسكو عابرة، بل تركت أثراً عميقاً في نفوس من قرأها أو عرفها. فالناقد والباحث إبراهيم محمود، الذي خصص لها كتاباً كاملاً بعنوان "سماء على أرضها"، يرى فيها تجسيداً فريداً للعلاقة بين المنفى والوطن، فيصفها بأنها: "شاعرةٌ تحوّل المنفى إلى مرصدٍ ترى منه كوردستان أكثر وضوحاً.. كلماتها ليست حروفاً على ورق، بل جذورٌ تمتد تحت المحيطات." ويضيف محمود أن الكوردية في لغتها هي "سماؤها الشاهدة على عمق جرحها"، وأنها "امرأة لا تخفي بياضها، حين تسمّي سوادها... ولا تتجاهل سوادها، حين تسميه بدوره".
أما الشاعر والكاتب إبراهيم اليوسف، الذي رافق تجربتها عن قرب، فيقدم شهادة تجمع بين الإبداعي والإنساني. يرى اليوسف أن مزكين لم تدخل عالم الكتابة كعابر سبيل، بل: "اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية... طالما كتبت بين عمليتين جراحيتين... كما لو أن الورق صار هو السرير الحقيقي الذي تستريح عليه." ويكشف عن إنسانيتها النادرة بقوله إنها في أشد لحظات مرضها الثقيل، كانت تسأل عن صحة الآخرين، "كما لو أن الاطمئنان على صديقة مريضة هو شكل آخر من أشكال مقاومتها". ويؤكد اليوسف على أنها كانت مجددة لغوياً، لا تستسلم للقوالب الجاهزة، بل تنحت جملها وصورها الخاصة، لتجعل من نصوصها فضاءً لا يشبه إلا نفسها، وتبرهن أن اللغة الكوردية قادرة على احتواء التجريب والتجديد.
ومن جانبها، وصفتها الكاتبة بهرين أوسي بكلمات تختزل صلابتها وتمسكها بهويتها: "جبل شامخ كآرارات وجودي لم تنل منه رياح التغيير القسرية... شاعرة كرّست قلمها لرسم جماليات الهوية الكوردية من منفى اختاره القدر".
إرث أدبي
على الرغم من صراعها مع المرض وتحديات الغربة، كانت مزكين حسكو غزيرة الإنتاج، وتركت وراءها مكتبة غنية من الأعمال التي أثرت الأدب الكوردي، ولم تكتب حرفاً واحداً بلغة غير لغتها الأم. من أبرز أعمالها المطبوعة:
دواوين شعرية:
-1 أحرف الحب، 2007
-2 أفق مليئة بعبق العندكو، 2008
-3 بين أنفاس الآلام، 2010
-4 على أطلال وطن جريح كنت أنهمر، 2012 و 2023
-5 ملاك الفضة الساحرة، 2012
6-قلادة من الزنابق، 2013
7-نحو مواسم العضق، 2015
8-الدروب المخضرة، 2019
9-نقش روح الصمت، 2021
10-البراعم الثملة بالضوء، 2023
أعمال نثرية:
1-من جعبة الحياة، 2020
2-من قاموس الشغف، 2023
3-من إشراقة بستان السرد، 2024
ولها أعمال أخرى غير منشورة في أدب الأطفال والرواية والترجمة، مما يدل على روحٍ مبدعة لم تهدأ حتى الرمق الأخير.
ورغم ما يناله كل مبدع أو مبدعة كوردية من تهميش وإقصاء، نالت مزكين حسكو خلال مسيرتها بعض الجوائز التي تشهد على مكانتها الأدبية، ومن أهمها: جائزة الشاعر تيريج الأدبية (2022): في تكريم تاريخي، كانت أول امرأة تنال هذه الجائزة المرموقة. تكريم مكتبة فرانكفورت الدولية (2021): تم اختيار قصيدتها "ملائكة الأرض" ضمن أفضل نصوص الشعر الحديث عالمياً. بالإضافة إلى نيلها ثلاث جوائز أدبية أخرى.
البقاء للكلمة
رحلت مزكين حسكو، الشاعرة التي جعلت من "الوجع قامة ومن الجرح صوتاً". رحلت المقاتلة التي واجهت المرض بالكتابة، والغربة باللغة، والتهميش بالإبداع. لكن رحيلها هو رحيل الجسد الفاني، أما روحها فباقية في كل قصيدة كتبتها، وفي كل قارئٍ سيجد في حروفها وطناً لا يحده زمان أو مكان. ستبقى "سماءً على أرضها"، نجمةً تضيء عتمة ليالي الأدب الكوردي، تذكّرنا دائماً بأن الوطن الحقيقي يُبنى بالحب والكلمات.
وكأنها تلخص رحلتها في سطور شعرية أخيرة، تقول:
النجمة التي كانت تتلألأ ليلة أمس"
في خاصرة السماء
ليست إلا قلبي البريء
قبل أن يدرك كم هي قاسية الأيام".
بسام مصطفى -روداو