Share |

نخب صحتکم…قصة: محسن عبدالرحمن…ترجمة: سامي الحاج

 

 

 

في الغرفة الصغیرة التي لفها نور خافت وحول الطاولة العامرة بما لذ وطاب من علب وقناني المشروبات وانواع المزات والمزدحمة بنفاضات السجائر الممتلئة باعقاب السجائر الصفراء والبیضاء، کانوا یجلسون صامتین یبدون کمریدي شیخ الطریقة في تأثرهم ولهفتهم وقد تحولوا کلهم الی آذان صاغیة الی ذلك الذي کان یحتل طرفاً من الطاولة ویضع امامه بضعة اوراق وهو یحرك نضارتیه ویرمق الاوراق بطرف عینیه بین الفینة والاخری.

وجهه استحال قبلة والعیون والشفاه‌ باب المراد، کانت الکلمات المنمقة تنضح بمرارة الواقع، تخترق اعماق النفس وتغدو مرهما وبلسما للآمال التي استحالت في اوعیة الاستجداء الصفراء والخضراء(1) احزاناً والاماً وجراحاً نازفة. ومع تکرار القاء بعض الابیات مرتین وثلاث، کانت یداه‌، کیدي قائد فرقة موسیقیة، تتحرکان في الهواء مع قوافي الکلمات وصوته یعلو ویهبط مع النوطة الموسیقیة وعند النهایات المفتوحة کان یرخي صوته‌.

احیاناً کانت ابتسامة نصر ترتسم علی شفتیه‌ المتیبستین اللتین حول الزبد لون زاویتیهما الی بیاض، واحیاناً اخری کانت عیناه‌ تستحیلان زوج مشاعل نوروزیة، وصمود ومقاومة السنوات العجاف علی قسمات وجهه تحکي قصة غیر مکتوبة.

کان الذي یجلس في الطرف الآخر من الطاولة، وقد تناول رشفة من الکأس المملوءة حتی منتصفها، یحدق في الشاعر وینظر الیه بتأثر متخم بالعواطف. ثارت کلمات من اعماق نشوته السکری، رفع الکأس وقال:

- في صحتك. بضمیري انك مبدع، خلاق، عبقري وداهیة الکلمة والشعر، مسیح عصر الفساد، صمدت في وجه ریاح السموم، لکنك تنازلت أمام زخة مطر ربیعیة. الخداع، وضاعة النفس، الریاء والکذب نحن. الحقیقة، القضیة، الانسانیة، وانفسنا، تنازلنا عنها کلها مقابل کأس وحبة فیاغرا. یا أصدقائي غیر المحترمین، الجبین التي انحنت مرة علی حذاء لن تستحق شرف الصلب ابداً. الصمود ضریبة المجد ولیست التضحیة وحدها. المرکب یتسع للجمیع عدا الخونة والخانعین من امثالنا.

- حقاً ما تقول. کلما سکرت، فکرت في ذلك الذي بهتت عظامه یوماً في زنازین العراق العظیم ثم حوله النفي والتشرد الی حکیم مهرج وقلت في نفسي لو صادفته في النهار فأنني ساقبّل جبینه الناصع کضفاف نهر سبنه(2) ولکن عندما افیق من سکري في الصباح اتراجع عن وعدي.

قال له‌ مجاوره‌:

- ایها الزندیق، ولماذا تستفیق.. ألا تستحي؟

رد علیه الذي کان یجلس قبالته:

 - من الانانیة.

وقرعوا کؤوسهم ببعضها، وقالوا سویة:

- نخب صحتکم.

- متی ستنتهي زخات المدیح؟

سأل صاحب النظارات التي تشبه عدساتها قعر الکأس.

- عندما ینتهي الصراع بین الله وابلیس.

جاء صوت من الطرف الآخر.

- یقال بان میاه الشرق انثی شبقة، وإلا فلماذا لا یشبع اخونا من الـ....... ابداً؟

وبیده التي کان یقبض بها علی الکأس بقوة، اشار الی الثور الذي کان في ذلك الحر مشدوداً ببدلة وربطة عنق.

- بدلاً عن ان نبحث عن ذواتنا فاننا نغوص اکثر في الوحل ونضیّع انفسنا، ولکي نتسلح بالشجاعة المطلوبة ونبوح بما یعتمل في نفوسنا فاننا نصرح به هنا بحجة السکر ونفرغ جعبة أحزاننا وهزیمتنا.

یا حبیبة من صنو الشمس

ارتعي من کأس العشق

املأي الکأس

وحلّي بها اللقاء والاحضان

مد الشاعر یده الی الکأس، ثم رفعه وقال:

- نخب صحتکم.

رفع الجمیع کؤوسهم وبصوت واحد رددوا:

- في صحتکم عوافي ي ي ي ي ي ي ي

 

 

*     *     *     *

 

 

 

(1) اشارة الی حزبي السلطة في کردستان العراق

(2) یمتاز نهر سبنه‌ الذي یجري في المنطقة الواقعة بین جبلي کاره‌ ومتینا بضفافه الصخریة البیضاء