Share |

وريقاتُ الشّعر الضائعة… محمود عبدو عبدو

   

تبحثُ عن مَفقوداتك القيّمة، عمّا كتبته في ليلةٍ باردة دونَ كهرباء كعادة المُدن التي تَعرضت بُنيتها التّحْتيّة لقصفِ قُساة القلوب، والتي رقمّتها سلفًا متسلسلة على وجهيها الأمامي والخلفي خشية ضياعها في النص الجديد.

الوريقات الصّغيرة - حفيدةُ ورق الماعون الأبيض من سلالة أشراف البُردى، صنيعة الحضارة والتطور - وريقاتٌ خصتها الظروف لتتناسب وحيواتنا- تشاركك الكثير من ملحوظاتك مؤخرًا وفي مسعى للاختزال الحياتي والمصروفي وحتى الأدبي وصنوفه الوليدة "الهايكو والومضة والفلاشة وق. ق. ج... إلخ"

 

نصوصٌ تتناسبُ وهذهِ القصاصات وحياتكَ وبوستاتكَ المُقتضبة أيضًا كحياتك الآيلة للاختزال والانكماش.

 

تشاركُ الورقة نتاجكَ كما فعلتَ آخر مرة، لولا بعثرة أولادك لها ولعبهم وضياعها بين أيديهم لتنطبق رياح وسفن أبا الطيب المتنبي عليك "تجري الرياح بما لا تشتهي السّفن".

 

لتعود لقصاصات- ورّاقاتك الشّعرية ستيكراتك- التي تركتها بين فكيّ لابتوبك ليلًا لتدونها فيما بعد وتجد أولادك يتناوبون على ألعاب الشّاشة الكبيرة ملقينها ذات اليمين وذات اليسار. 

 

تبحثُ عنها بعد موجة غضب عارمة رَكِبتك، ويشاركك الصغارُ رحلة البحث عن شيءٍ لا يفهمونه ولا يُدركون قيمتهُ، ليست أوراق مسودة تقليديّة وليست ملاحظات مُؤقتّة.

 

تردّدُ بِصمت المُعتمين إنه الشّعر الذي قادك، ونستمر في بحثنا دون هوادة.

 

وأذكر المميز محمد الماغوط حين خطّ نثره الرشيق على أوراق لفّ السّجائر في سجنه وهربّها مع أحد زواره لخارج السّجن، لكنه وجدها حين خرج ولم تضع لفافاته، ولربّما لفّ بها تبغه ودخّنها فيما بعد خروجه ليمتزج حريق الشّعر والتبغ والمزاج والحرية.

 

لا يضيعُ شعرٌ وراءه عاشق

 

لا يضيع شعرٌ وراءه عاشق، ولا حقٌّ وراءه مُطالب... هكذا إنها "الوريقات" التي استحصلت على بعضها، ما حصّلته من قصاصاتك لم يشكل نصّك الكامل، فهو منقوص في أوسطه وفقًا لسلستك الرّقميّة، نصّك الخاص عن مدينتك- ديرك/ مالكية بعنوان" مدينةٌ تحلم دون بحر" ونصّك الجديد عن ضياعها- أوراق قصيدة المدينة الضائعة-، مدينةٌ قصيّة حتى عن الورق!

 

تَحضرُ أمامك معالم وجه فيكتور هوغو، الروائي الفرنسي حين أحرق أولاده، قصائده المخطوطة المعدّة للإرسال للنشر، ووضعوها في المدفأة، وتتذكر ما توقف ياقوت الحموي في معجم "الأدباء" أيضًا بدوره على قيام أبو حيان التوحيدي في آخر سنواتِ عُمره بإحراق كتبهُ بنفسه، والقائمة تطول لمن أضاع أو أحرق، ولعلّني قرأت في مكانٍ ما عمّا فقده الشّاعر سليم بركات في أحد المطارات - على ما أذكر الجزائر- بضياع حقيبته والتي تضم مخطوطات غير منشورة ومنها "ديوان عن الحيوان".

 

لتأخذك عملية الارتداد للحريق الأضخم والذي ربما لا زالت تزخر ُبه المخيلة البشرية - مكتبة الإسكندرية- 500 ألف مخطوطة عندما قام الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر بإشعال حريق بِأسطول بحري في البحر المتوسط إلى أن وصلتِ النيران إلى مكتبة الإسكندرية الضّخمة وتمّ تدميرها وسويّت بالأرض تمامًا جراء الحريق عام 48 م.

 

لتسبقكَ خيالاتكَ للكتب والأوراق وضياعها، وتبحث عن فقد الكتب والتي وصلتنا فقط منها إشارات وبعض الحقائق التي تشير إلى إنهّا كانت لتُستعاد لاحقًا على ألسنة بعض الباحثين، كما فعل الدكتور إحسان عباس في شذرات من الكتب المفقودة في التاريخ، أو تعود القهقري لحرائق الكتب -جناياتٌ بحق المعرفة والكتابة- جُرمٌ تاريخيٌّ وليس أدلّ على ذلك ما فعله المغول بحرقهم لمكتبات بغداد وإلقائها في نهري الفرات ودجلة وتغير لونهما، أو ما حدث لمكتبات الأندلس بعد خروج المسلمين فيها، لتلتهم ألسنة النار واللهب إلا القليل، وتعود بنا الذاكرة للحريق الأكبر وما أصاب المكتبات والكتب في الحرب العالمية الثانية كمكتبة طوكيو- 220 ألف كتاب.

 

ولعلّ فقدانك لديوان "كنيسة المحارب لسليم بركات" والصادر عام 1976 عن سنوات الحرب اللبنانية وفيه يومياته النثرية وقتها، اليوميات الصغيرة لحرب الجبل، كان لهذ الفقدان وقعه الصادم عليك أيضًا في سكنك الجامعي حينذاك، مُتهمًا كل زوارك من عشاق بركات بالسرقة.

 

لتعود عقدًا وأكثر وتستذكر المخاوف والظروف التي رافقتنا لسنوات الخوف السّورية في إخفاء الكتب والكرديّة على رأسها، حتى لو كانت أدبية! وحرقها أحيانًا أو تخزينها -الكتابات والأوراق- في أقبية أو تحت حجارة رطبة لتجدها فيما بعد غير صالحة أو نخفيها تحت التراب في علب بأكياس أو عند سماعنا لتفتيش ما، لتكون الأمطار والرطوبة سبّاقة منّا إليها، كنّا نخفي علب السّجائر والكتب الكرديّة معًا، ولأنّ الكرديّة - كلغة- محاربة فكلّ شيء له صلة بها حتى لو كان شعرًا عربيًا لكن مؤلفه كردي كانت تحوم الشّكوك حولها ودلالاتها وصورها وما وراءَ سطورها.

 

كيف ستكمل غزل عَتمتك دون تلك الوريقات!؟

 

"الملصقات الشّعرية ملائكة النور معك"

 

جوّابو الغرف يُحضرون أوراقًا صغيرة قصّها آخر العنقود - ابنك- كحجمه مُصطحبًا بقايا قلم رصاص مدرسي نسيه سابقًا في أسفل حقيبته، مخمّنا بأنّها ستحيي وريقاتك.

 

فتاتُ الخجل ظاهرٌ على محياهم، وفي أيديهم ذعرٌ من بقاء حريق ضياع أوراق الشّعر في داخلك.

 

تسند ظهرك وتتنهّد وخنجر الفقد ينغرس عميقًا، يقترب آخر العنقود اللذيذ مجدّدًا يجلسُ القرفصاء ويرسم بقلمه على قصاصته شطآن بحر وسمكة وينشد للمياه بملح عمره السّادس، أيّ رؤيا سكنته ليرسم البحر والشّاطئ ويواسيك ببحر في ضياع قصيدة عن مدينة دون بحر.

 

هل ثمّة فرقٌ بين فقدِ الشّعر وفقد قطعة ذهبيّة

 

يركضون، ينبشون، يبحثون، دقّقوا طويلًا بين الكنبة وأخواتها والنافذة وأمها السّتارة، والحاوية وتفاصيل مرميات المنزل، مرّوا بالمطبخ مرور الغزاة ونبشوا الأوراق القديمة مرور الرّمل السريع على شارع في البادية.

 

يَسألك لصيقك الصغير في محنة الفقد والضياع، ألمْ تحفظ شعرك! مثلي أنا وأناشيدي المدرسية!!

 

كيف تلتقط من لوزهُ خطواتك وتستجمع شرودك الموزع على حلواه وأوراقك.

 

وحين يعثرون على قصاصة "وريقة" يهرولون برئاتهم النافسة على آخرها فرحًا، وجدنا واحدًا وسرعان ما يعودون للعبهم وبعض البحث.

 

يتتّبعون أثرهم الذي كان، لم يكتمل نصّك وبقيت قصاصاتك شاهدة فقط على نصّ طويل ما عن مدينة تحلم دون بحر وفيهاأناسٌ كالزبد يرسمون فقدهم ورمالهم وشطآنهم في كلّ مكان.

 

 

الوريقات: قصاصات مُربعّة مُعدّة بقياس موحد 8سم، ومنها الأبيض والملون - ستيكر.

 

(13/2/2024)

 

 

*شاعر كردي من سورية.

 

 

موقع ضفة ثالثة